في المجموعة الشعرية “ما أنا فيه” للشاعر المصري أحمد الشهاوي الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة 2020 عدد بارز من السمات والخصائص الجمالية والقيم الدلالية التي تؤشر لكونها واحدة من أهم المجموعات الشعرية وأكثرها ثراء ، وتبرهن بقوة على خصوصية الصوت الشعري للشهاوي ، وأنه يصدر عن أحوال شعرية تتسم بالكثافة والثقل ، وتبتعد تماما عن الافتعال ، أو ما يمكن تسميته بالتشعير الاضطراري ، بل نجد أننا أمام أحوال شعرية تتدفق في سلاسة وعذوبة نادرة ، كأنها تجبر صاحبها على البوح بها ، أو أن الشعر يقول نفسه عبره، وما الشاعر إلا ذات مضطرة ؛ لأن تفيض بما يعتمل بداخلها ، وتتمثله الذهنية الشاعرة والروح لديه وفق جسد شعري خاص في لغته وصوره وتمثلاته الجمالية ، وبخاصة ما يرتبط بالأسطورة أو السرد أو حالات العشق وتجلياته أو أحوال التلاشي والعدمية أحيانا، فكأن الشاعر عبر هذه النصوص إنما يرتقى بروحه نحو البناء الشعري ويصعد فيه تدريجيا مدفوعا بقوة هذه الحالات التي تعيشها الذات الشاعرة. النمل والملك سليمان أشجار دم الأخوين والعشقُ مثل الماءِ إنْ شابتْهُ شائبةٌ خبا واختار أن يمشي بعيدًا في طريقٍ من سرابْ. تتجلى حال خاص من السقوط المثير للشجن والحزن، وهو ما يحاول النص الشعري أن يصطنع منه حالا شعرية ، لها قدرة كبيرة على إثارة مشاعر المتلقي ، وجعله منحازا لهذه الذات المعذبة بهذا السقوط وآثار الخيبة المضنية. في نصوص هذه المجموعة الشعرية نحن أمام حال أقرب لمواجهة الذات مع نفسها ، أو المصارحة والمحاسبة النهائية أو الختامية في وقفة قوية تجعل الصوت الشعري أقرب لانفجارات غضب أحيانا، ولهذا نجد أن ثمة نسقا من التبديل في الضمير بين المتكلم والمخاطب ، لنكون أمام تحول بين البوح والمواجهة ، أو محاسبة النفس ومحاكمتها أو مراجعة كل ما مضى من تاريخها. هذا التنوع في الضمير من الناحية الجمالية ، له أدوار وظيفية عدة ، أهمها اصطناع شكل من البوليفونية أو تعدد الأصوات في القصيدة، بأن تضحي الذات الواحدة منقسة إلى ذاتين، إحداهما تتحدث ، والأخرى تستمتع، إحداهما تحاسب ، وترى ، وتراجع ، والأخرى هي من ينصب عليها هذا الحساب ، وتلك المراجعة والرؤية، وهذا النسق يمنح القصيدة بعدا دراميا، ويشكل صورة يُحتمل فيها القسوة من الذات المحاسِبة ، أو التي تؤدي دور المراجعة ، وهو ما قد يورث لدى المتلقي شعورا بالانحياز للذات الشاعرة ؛ لأنها في النهاية إنما تقسو على نفسها وفق هذه التركيبة الشعرية ، أو بالأحرى وفق هذه الحال الشعرية التي تجد نفسها مضطرة إليها. وليس تعدد الذوات الفاعلة في القصيدة مقصورا على اصطناع تلك الحال من المراوحة بين الضمائر ، أو التحول إلى مخاطبة الذات، بل قد تنشأ التعددية من السؤال عن فواعل غامضة حاضرة في النص بأثرها السلبي، كأنها وراء هذا السقوط ، أو فاعلة في إحداث كل تلك الخيبة التي تعانيها الذات الشاعرة ، ومثال هذا النمط من السؤال ما نجده متحققا في هذا النموذج حين يقول: من ذا الذي سيَّبَ الخيلَ لتعدُو والفَراشَ ليومضَ في سمائي والنحلَ ليطنَّ داخلي والأفاعي لتفحَّ سُمُومَها في لساني والصُّقُورَ أتتْ من عالمٍ قديمٍ لتقنصَنِي في المنام والأفيالَ لتدُوسَنِي في الحُلم في هذه الصور الشعرية المتفجرة في الأصل عن السؤال ، نلمح أن هناك فاعلا خفيا وراء كل هذه الأفعال المعطوفة على بعضها، ولكن هذا الفاعل مجهول ، وهو ما يزيد في الحيرة والألم، قد يكون القدر أو الزمن، أو شيء ما غامض هو السبب، كأن يكون حدثا مهملا أو منسيا ، أو تتعمد الذات الشاعرة الهرب منه أو تجاهله ، أو تتجنبه برغم كونها في الظاهر تسأل عنه أو تفتش عنه عبر السؤال، فتلك هي إحدى حيل الذات لمجرد البوح ، أو هي الحيل الشعرية بالأساس ، وليست حيلا حياتية أو حقيقية، بل هي حقيقة من حقائق عالم الشعر فقط. حتى في الصور التي يكون فيها الفاعل واضحا مثل النحل الذي يطن ، والأفاعي التي تفح سمومها أو القصور التي تقنصه في المنام أو الأفيال التي تدوسه في الحلم، هي بالأساس مرسلة أو وراءها قوة أخرى أكبر منها، فما هي إلا جنود ذلك الفاعل الخفي ، أو ذلك الحدث الأبعد والأعمق والأكثر غموضا، القابع في أعماق اللاوعي الشعري. وهذا الغموض يجعل النص الشعري أمامه مساحات مهولة من الخفي الذي يحاول مقاربته ويبدو القول الشعري متمركزا بإزاء خفايا وخبايا كثيرة ، يحاول اقتناصها وهذا في ذاته يمثل زادا له أو يجعله أكثر تشويقا وتحققا. فهذه الذات الشاعرة التي تقول أو تبوح بأوجاعها مازال لديها ما هو غامض ، وترجو العثور عليه ، أو ترجو أن يعينها القول الشعري أو الشعر وحال البوح على كشفها، وهنا يكتسب الصوت الشعري طاقة ملحمية مستمدة من هذا البحث أو التنقيب عن الخفي لديه أو في أعماقه وأحيانا ما يكون البحث في تاريخ الشخصية أو مسيرتها، لأن هذه الصور الشعرية المكثفة إنما هي اختزال لتاريخ كامل وحياة حافلة بالتفاصيل وثرية بالتحولات. على أننا لن نكون في كامل الوعي النقدي إذا ما أهملنا الناتج الجمالي المتحقق عن حضور هذه الوحوش الغامضة والظاهرة في فضاء حياة الشاعر بمسحاتها المختلفة ما بين الصحو والنوم ، بين اليقظة والحلم ، فلدينا النحل ، والأفاعي ، والصقور والأفيال، وكلها لها وجه من وجوه الشراسة، يتحقق هذا في مساحة شعرية صغيرة وفي صورة شعرية مكثفة، وهو ما يجعلنا في المجمل كما لو أننا أمام ذاتٍ تتعاورها وتتصارع عليها كل طاقات القوة والعنف والشر التي في الكون، فتخلق هذه الصورة الشعرية حدودا لعالم درامي يصبح فيه الشاعر بطلا يتحتم عليه مواجهة هذه القوى ويحتمل الانتصار أو الانهزام ، وهو في الغالب ما تصمت عنه نهايات القصائد، فنكون مع كل نص شعري جديد متشوقين لحسم هذا المصير. وهكذا فإننا نجد النصوص مترابطة فيما بينها برباط الشعور، وبأنساق كثيرة ممتدة منها هذا الغامض المجهول، الذي يرغب دائما في معرفة ولو اسمه، فقال في قصيدة أخرى: آهٍ لو قُلتَ لي ما اسمُه ؟ ومن أينَ جاء ؟ لكنتُ دفعتُ عنكَ الأذى زرعتُ أمام البيتِ شجرةً لا تطرحُ سوى التُوتِ والذَّهب . فيكون دفاعه عن ابنه الذي هو ذات ظل وامتداد لذاته مرتهنا بأن يعرف اسم هذا الفاعل الغامض أو من أين جاء ومتوقفا عليه، وكأنه وحش يتربص بهما. والأمر كذلك بالنسبة لزراعة شجرة لا تطرح سوى التوت والذهب أمام البيت، ليجتمع في هذه الشجرة الأسطورية الغرائبية إنتاج الطعام والمال، فهي رمز لكل ما قد يحتاجه الإنسان في حياة رخية، رمز لمستقبل هانئ تظلله الرفاهية والسعادة. وهكذا نلمس أن النص الشعري دائما قادر وفق سيرورة تخييلية خاصة على تمديد الصورة ، وجعلها عالما كاملا عبر ما تكتنز من دلالات وترميزات غير مباشرة تستمدها من علاقتها ببقية العناصر الشعرية في النص. وظلال هذا الفاعل المجهول حاضرة باستمرار، وعبر تنويعات عديدة، هذه التنويعات بذاتها كاشفة عن قدرات شعرية كبيرة تجعل المعنى الواحد يتمثل في حالات عديدة، وهي كذلك دليل على أن الشحنات الشعورية والعاطفية الضاغطة لإنتاج القول الشعري هي من الثقل والقوة بما يجعل انعكاسه الشعري ممتدا بهذه الكيفية، يقول في موضع آخر: ومُنذئذٍ تحاولُ شتلَ كُرُومٍ جديدة في أراضٍ لا تعرفُ من سَرَقَها منكَ ليلا وأنا بعيدٌ. فالنص الشعري عبر طريقته الترميزية في إنتاج المعاني والصور الشعرية عبر عن الأمنيات الضائعة ومصادر الخوف على الابن/ الذات الظل الذي لم يأخذ من الحياة بعد كل ما يستحق ويرجو له، وعبر عنها بنبيذ العمر وزجاجاته المتتابعة التي لم ينه منها سوى واحدة، وهكذا انتقل إلى زرع شتل كروم جديدة، وهكذا نجد أن فعل الزرع يأتي أكبر من معناه المعجمي بكثير، فهو سبيل دفاعية ومواجهة أمام ذلك الفاعل الغامض الذي يتموضع بوصفه ذاتا عدائية بشكل ممتد. تعد الحال الشعرية التالية حالا مركزية ومهمة وكاشفة في مسار القراءة التأويلية لنصوص هذه المجموعة، ذلك لأنها تعد نموذجا بلاغيا في تجسيد السقوط والفشل الذي تشعره الذات الشاعرة وتعيشه، وذلك حين يقول: لكنَّ اليومَ الأسوأَ يوم سقطتُ واهنًا لا جيبَ لي لا سريرَ لا طريقَ يدلُّنِي عليَّ لا امرأة في رأسي أشتهيها ولا غُرباءَ مثلي يهتِفُونَ للفَشَل هنا في تكثيف وسرعة وبعيدا عن الانزلاق إلى الميلودراما ولغة الاستجداء الرخيص، نجد أن الذات الشاعرة جمعت الأبعاد كافة التي مثلت فشلها أو سقوطها، لا جيب لي، وهي صورة تملك قدرة كبيرة التلميح وتملك انفتاحا وثراء تأويليا هو بالأساس نابع من التوظيف الشعري، فكلمة جيب هنا دالة على التجرد من المال نقدا أو عيبا، فغياب المفردة الدالة على الاكتناز ، أو الاحتفاظ دالة على غياب كل أشكال المال، وليس دالة على النقدي فقط ، على أن هذا الغياب ، ربما يكون لزهد من نوع خاص، أو غياب الرغبة فيه، وغياب الأمل. أما ولا سرير ، فهي دالة على السكن والبيت والشريك ولو بغير حب. ولا طريق يدلني إليَّ، تجعل المقولات والجمل الشعرية السابقة أكثر منطقية واتصالا ببعضها أو ذات تراتب دلالي ظاهر، لأن التيه أو الضياع الكامل عن ذاته يجعله بلا جيب أو سرير، وتمثل الجملة الشعرية بغياب المرأة التي يشتهيها هي قمة المعاناة، فغياب العشق أو انطفائه هو غياب للقلب وربما يشير إلى ذروة العدمية كأننا أمام حالة من الموات لديه وهو حيِّ. وهكذا نجد أن الخسارة تتجلى في نصوص هذه المجموعة الشعرية عبر تنويعات عديدة، ما بين ضياع العشق ، أو خسارة الرأس ، وضياع الطريق، يخسر قلبه أو لا يقدر على العشق الذي هو ذاته وكيانه، أو أن يفقد الطريق إلى نفسه وإلى العالم، ويصبح العالم كله غريبا عنه. والحقيقة أن عرض المعنى الواحد بتنويعات قولية وتصويرية كثيرة هو بالأساس كاشف عن القدرات الشعرية والتخيليية الكبيرة التي تجعل للذهنية الشاعرة طرائقها في التعبير وتشقيق المعاني وتفسيخها لحالات عدة وتنغيمات ذات مستويات متفاوتة تكسر حدة الملل، برغم كونها في الأساس إنما تعبر عن روح واحدة، ولها دور وظيفي مهم وهو أنها تجعل نصوص المجموعة ذات ارتباط وتماسك فيما بينها. ومن الطريف والمدهش أن يكون التعبير عن حالات الضياع والخسارة قابلا لأن ينتج كل هذا القدر من الجمال الشعري عبر تحييز المتلقي ، واجتذاب انتباهه ، واستقطاب حواسه ، ولا أقول اللعب على مشاعره ، أو استجدائها ؛ لأن هذا غير حاضر، فهذه الذات الشاعرة المزدحمة روحها بطعنات الخسارة والخيبة ، هي بالأساس ذات مازالت بكامل اعتدادها بذاتها ، وبكامل صرامتها ووقارها، تجد في القول الشعري كل عتادها وعدتها ؛ لأن تتحقق ولو بشكل غير مباشر، فهي وإن تشككت فيما أنتجت أو طرحت، وتشعر بخيانات كل عناصر الوجود من حولها بما فيها اللغة ذاتها تظل منطوية على قدر كبير من الإباء والشعور بالقوة، ربما هي بقايا الطفولة أو متعة ما عاشت من أحلام الطفولة ودفعاتها وطموحها. الجزء المهم في هذه المجموعة الشعرية ويكسبها روافد جمالية عديدة، هو ذلك الجزء المتمثل في توظيف الأسطورة بأشكالها ومستوياتها كافة ، وبخاصة الأسطورة الدينية والتراث الإبراهيمي في قصة نوح وسليمان وداود وقصة النمل وأشجار دم الأخوين، وحوت يونس الذي يصبح حيتانا، وغيرها من الأساطير والقصص الدينية التي تحتاج إلى دراسة قائمة بذاتها، أما ما يشغلنا هنا فهو أن نشير إلى جماليات حضور الأسطورة في هذه النصوص الشعرية، أولها أنها منحتها طاقات سردية عظيمة، كما أنها جعلت الذات الشاعرة أقرب إلى بطل ملحمي يتجلل بقدر كبير من القداسة والهيبة ربما هي النابعة من الشعرية ، أو من كونه يجابه كونا كاملا يبدو متحاملا عليه، أو جعلت من الشاعر نموذجا للبطل الأسطوري البحار أو الرحال المتجول الذي يتنقل في الأماكن والفضاءات البعيدة والغابات المأهولة بالقوى الخفية والشياطين والمردة والوحوش ليجابهها ويدافع عن امتداده وظله ويحاول استنقاذ أحلام طفولته وخططها النبيلة منها. تنفي الذات الشاعرة عن نفسها العظمة أحيانا ، وتحاول أن تثبت عاديتها ، وأنها ليست كالأنبياء أو الأبطال الأسطوريين، وفي الحقيقة أن هذا النفي هو بالأساس يفضي إلى الإثبات، لأنه نوع من النفي الاستنكاري الهادف لإثبات الدهشة من كون الدنيا كلها تعانده ، أو تختبره وتمتحنه بكامل قسوتها، وهو ما يحقق للنص الشعري قدرا كبيرا من موضوعية الرصد ، ويجعل المتلقي متعاطفا مع هذه الذات التي وإن كانت تستشعر في نفسها العادية لكن المتلقي يراها جديرة بكل هذه الحروب والمتاهات والامتحانات القاسية وأن يكون ضدها كل هذا الكم من معاندة الأقدار أو القوى الخفية. تتخذ المفارقات مسارا تكوينيا خاصا، وتصبح مشكلة ومنتجة لنوع من الصور الشعرية الجديدة تماما، هي صورة شعرية نابعة من الحال الشعرية الخاصة والمغايرة التي تصبح الذهنية الشاعرة خاضعة لها ومتحركة بسيرورة ضغط تلك الحال، فإحساس الخسارة والتهشم والتلاشي مثلا ، يدفع إلى إنتاج صور طازجة ، ربما يشعر القارئ أنه لم يصادف مثلها من قبل لدى أي شاعر آخر ، أو أي نص آخر، وذلك لأنها ابنة الحال الشعرية كما ذكرت، وهي صور قائمة على نسق من القلب والتضاد والتبديل التام، ومثلها أربي الخسارات وأرعى الخسائر، وأبكي صامتا، وعقلي جسر معلق، وصار الخوف سلطان حروفي، وأختبئ في جيب قميصي. وهذه الصور تبدو أحيانا جزءا من غرائبية العالم الشعري الذي تقيمه وتنشئه نصوص أحمد الشهاوي الشعرية ، تتحكم في تكوينها أنساق من العكس والقلب والتصغير والتضخيم والتفتيت والمفاجأة وكسر التوقع، وكلها تقود نحو كون عجائبي أو يخالف السائد ويحطم المألوف، والأجمل في تقديرنا أن كل هذا يتم دون أن يشعر المتلقي بأدنى درجة من التعسف أو الإقحام أو مجرد الرغبة في التغريب، بل يبدو ذلك جزءا طبيعيا ومتناسقا مع بقية العناصر الشعرية وجزءا من الحال الشعرية التي يقاربها النص وجزءا من الشعور الكلي المهيمن على النص من بدايته إلى آخره. والحقيقة هي مجموعة شعرية ثرية ، وتحتاج إلى تعدد في زوايا النظر والتأويل ، ومستويات كثيرة في المقاربة لمعطياتها ونواتجها الجمالية والدلالية ، وتحتاج إلى دراسات مُطوَّلة تملك من الوقت والأمثلة ما يكفي للتدليل على هذه المسارات والأنساق المذكورة ، وبخاصة الصورة الشعرية وحدود الأسطورة وتوظيفاتها.
مشاركة :