في مقدمته لكتابي القاسم مدينتي، التقيت محمد جواد للمرة الأولى قبل ما يقارب من 4 عقود في منزل الموسيقار كوكب حمزة. هكذا قال «إمام الرواية» إسماعيل فهد إسماعيل، حيث كنت أزورهم في دار الحناء والبرحي، مدينة الطيبين البصرة الحبيبة. فمنذ البداية وحكايته عن «الكرة والباص» وبداياته الأولى، ثم التفت فوجد البقعة الداكنة، بعدها لاحت الأجواء الهادئة، فكانت السماء زرقاء، غابت الظلمة وبدت المستنقعات الضوئية. عاد والحيرة تمسّك بتلابيبه وذكريات الرفاق والزملاء وما أصابهم ومسلسل الاعتقالات والمصير المجهول، فجاء لينشر ما بجعبته ووضعها على الحبل. ثار الأصدقاء ودعوه للعودة إلى درب السلامة التي اختطها معظم أصدقائه وعدم ركوب موجة الفلسفات آنذاك، مال وكان لوعده الذي قطعه لهم، فحطّ بالضفاف الأخرى. وإسماعيل المشغول بالهمّ الأممي أفرد للهم العربي وما جرى للقضية الفلسطينية والانتكاسة فأصدر «ملف الحادث 67»، وعندما حدثت مصائب لبنان كان بين الحشد العربي وشاركهم تأملاتهم وخوفهم، فكان بينهم وكتب «الشياح». التفت اسماعيل إلى مجتمعه الذي بدت عليه بوادر تفاوت الطبقات، وحال الوافد الذي اعتصرته الغربة وعيشته البائسة، فتناول هذه الفئة وسكب همومها من خلال «الأقفاص واللغة المشتركة». نادته وزارة التربية وأعدت له رحلة دراسية كي يتقن علوم الإذاعة وتطوير وسائل التدريس، فبعثته الكويت إلى مصر، فكان فرحه لا يوصف، فسيعاود الاتصال بصاحب البصمة الثقافية بدربه، الشاعر صلاح عبدالصبور، وصديقه القريب عبدالرحمن الأبنودي. تجوّل بمصر واستمع إلى حوارات أهلها وتجاربهم، فأتى ردّ الجميل أن سجل ثلاثية النيل يجري شمالًا، مما استفز بعض كتّاب مصر، فكيف لكاتب غير مصري يكتب عنّا؟ لكن هناك من كان أعقل من هذه الفئة، فأيدت إسماعيل لتكون الحصيلة: 1- البدايات والنواطير والنيل الطعم والرائحة. هدأ قليلاً ليبدأ عشقه بالكتابة، وكان لا بدّ أن يكون للأقلام الكويتية فسحة تليق بكتابه، فتحدث عن القصة العربية في الكويت. علاقة إسماعيل بالسينما والمسرح علاقة عميقة، وقد لوّنها سعدالله ونوس بكتاباته وعلاقته المتينة بإسماعيل، فكتب «دراسة في أدويب سوفوكلس»، ثم أردفها بدراسة عن مسرح سعدالله ونوس، فتوقف عند «الكلمة الفعل». ولم يبعد عن المسرح ولا عن وضع البلد آنذاك، فجاءت مسرحيته (النص)، أخذ نفساً عميقاً وعاد لأصدقائه ليكتب «الطيور والأصدقاء»، ثم خطا خطوة جديدة، لكنها كانت «خطوة في الحلم». ويوم حدث الزلزال وكان الاحتلال، طلب منّي أن نذهب إلى البصرة، لكنني رفضت وأبلغته أنني أقسمت لن أدخل العراق ونظام الدكتاتور قائم، فردّ باسماً: ها نحن أدخلنا في دوامته، وأصبحنا ضمن إحداثيات زمن العزلة، فها هي الشمس في برج الحوت، وأصبح للحياة وجه آخر، وصرنا ضمن دوائر الاستحالة، ولعلنا نمسي في ذاكرة الحضور كي نتقي غضب البابليين، قبل أن يبدأ العصف الذي لا يُبقى ولا يَذَر. بعد مُضيّ فترة من زمن عاد به الهدوء لتعود به الذاكرة إلى أيام أبو الخصيب والسبيليات إلى صاحبه جعفر موسى علي، وأيام جراديغ التمور وأحداث تموز، رسمها جميعاً بلوحة رائعة «يحدث أمس». ظل الغزو ينهش بذاكرة إسماعيل، فأضاف له «سماء نائية»، التي طرق بها إسماعيل جانباً من مصيبة الغزو وبتأنٍّ ورويّة. في مكتب إسماعيل كانت تعمل سيلانية وتتحدث عمّا تعرضت له من استعباد واستغلال في بلدها، وكذلك يوم حطت أقدامها بدار لم يرحمها أحد، فذهب إلى سيلان، ورأى بأم عينيه وهو يعلم ما يدور حوله هنا، فترجمها جميعاً إلى «بعيداً إلى هنا». رجع إسماعيل إلى عمق التاريخ وعالم اللصوصية (اللصوصية قرينة الحرية)، فكتب «الكائن الظل». ظلت الصحافة تطالب إسماعيل بالكتابة على صفحاتها، فكتب النقد عن أدباء «مبدعون مغايرون»، ولصداقة علي السبتي خاصية ونكهة، فللسبتي ميزة جعلت إسماعيل أن يكتب عنه شاعر بالهواء الطلق. وللأديبة ليلى العثمان دالة على إسماعيل، ويوم طلبت الرابطة أن يكتب عنها، بقي متحيراً ماذا يكتب، فأخذ جزءاً من حياتها وسطرها «ما تعلّمته الشجرة». بقي المسرح يعنّ على بال إسماعيل، ولم ينفك عنه، وكان لصديقيه عوني كرومي وعبدالله يوسف الأثر بكتابته، للحدث بقية، والعرض لم يبدأ بعد، ثم جاءت سلام على لسان أحبته من شعراء وكتّاب. تلقف قضية سجن أبوغريب، فكانت إحدى قصصه الأربع التي احتواها «الكائن الظل». ثم عاد بذاكرته إلى عشرين عاماً، واختمر بذهنه أن يستبدل ضمير الغائب بدل ضمير المتكلم، فكانت «مسك»، وفي حوار بيننا عن عزوف البعض عن قراءة النصوص الفلسفية، فقال إنها تجربة، فإن قرأها عشرة من القراء فإني فرح بذلك، وحديثي عن «عندما يكون اسمك في طريق ورأسك في طريق أخرى». إسماعيل الموقف وتضامنه مع مجموعة من الشباب المثقف الذي وجد الظلم يعتم حياتهم، فانبرى بكل وضوح والدفاع من خلال «في حضرة العنقاء والخل الوفي». بعد عذابات فراق الأسرى والأمل بعودتهم، وكان بدر الفهد أحد هؤلاء الأسرى، ومن أجل تبيان ما يحصل بالعراق، وذلك من خلال بعض العسكريين المتعاطفين مع أسرى الكويت جاءت هدية «طيور التاجي». لتطابق الشخصية وإعجابه بتمرّد هذا الشاعر، كتب «الظهور الثاني لابن لعبون»، ووصلت لحظة العودة إلى ديار ملعب الأقدام وإلى الجارة أم قاسم، فأراد أن يردّ الجميل لأهله وأحبته، ففتح نهر المحبة «السبيليات». ولعلاقة ناجي العلي وإسماعيل حالة متميزة وأهداف مشتركة، وبعد الغدر به لم ينسه فباح بسرّه من خلال «على عهدة حنظلة». وفي ليلة ظلماء وأمسية لمناقشة آخر أعماله، أعلن عريف الحفل مناقشة صندوق أسود آخر وهي آخر رواية لإسماعيل، فغضب عليه بعض الحضور، «لم هذا التشاؤم وجعلها آخر أعماله»؟ لكنه وكأن الموت أنطقه لتكون الليلة الأخيرة، وآخر كتابة حمل هموم فئة البدون. مضت سنوات خمس، لكنك ستبقى بيننا. إسماعيل أنا معك.
مشاركة :