كانت المرة الأولى التي لم أنتبه فيها أنّ الفراغ بحدّ ذاته شيطان، وأن ّمضيعة الوقت كفيلة بأن تهدم البيوت، كنت أغلق باب الغرفة على نفسي بالسّاعات أُشغل وقتي بجهاز الحاسوب متناسيةً متطلّبات منزلي وواجباتي تجاه أبنائي وزوجي. انشغلت عن الاهتمام بأبنائي وعن واجباتي المنزليّة، حتى أنّني أغفلت عن الطبّخ ولم أعدّ أدخل المطبخ الإ يوم الجمعة ليس مثل أي امرأة متزوّجة، فقد كلّفت الخادمة بأن تقوم بكلّ مهامي اليوميّة حتى أصبحت هي بمقام الزّوجة و الأمّ وربة المنزل، فكانت تستيقظ قبلي تجهزّ وجبة الإفطار، وتوقظ أبنائي صباحاً وتعدّهم للذّهاب إلى المدرسة، ثمّ تسرع إلى المطبخ؛ لتقدّم فنجاناً من القهوة لزوجي، وتجهّز له ملابسه بعد أن تحرص على تعطيرها و تبخيرها وتسّليمها له بأبهى حلّة، وبعد ذلك كلّه تبدأ بتنظيف المنزل وترتيب الأسرّة وتحضير طعام الغداء، والمؤلم في الأمّر أنّني أنا سيّدة المنزل الأولى لا أزال نائمة، .وعند استيقاظي من النّوم تغمرني السّعادة؛ إذّ إنّ كلّ شيء حولي على أكمل وجه، بل إنّ ذلك لا يعجبني أحياناً، فأبدأ بإطلاق التّعليقات اللاذعة، والملاحظات الجارحة؛ حرصاً منّي على أن لا تغتّر بأدائها وتبذل المزيد من الخدمة والجهد، فأبدأ بمعاجزتها وأوبّخها بلهجةٍ صارمة: (لماذا لم تنظّفي ذرات الترّاب الموجودة على حافّة الشّرفة) علّماً أنّ الشرّفة تطلّ على الشّارع ومن الطّبيعيّ أن تجد التّراب على جوانبها، ومع ذلك كانت تستقبل تعنيفي بكلّ رحابة صدر، بل كانت تقابلني بابتسامتها قائلة: (حاضر سيدتي أنا تحت أمرك ). وعند حلول موعد عودة أطفالي من المدرسة، كنتُ آمرها أن تذهب قبل ساعة كاملة لتقف في الشّارع منتظرةً باص المدرسة حرصاً على أن يشعر ابني بالخوف وأن يجد من يستقبله ساعة وصوله من مدرسته وحمل حقيبته ، وبعد كلّ ما تقدّمه هذه الخادمة أتحيّن الفرص لإزعاجها وإهانتها بتعليقات محرجة، بل إنّني أشغلها بمهام كثيرة وأفاجئ بصبرها وطيب خاطرها ولباقة أسلوبها وعدم مجادلتها لي رغم ما يصدر منّي من قسوة وعنف تجاهها. وعند وصول أبنائي يبدؤون بمناداتي (باسمي) أين الطّعام، فأشير لهم بأن يذهبوا لسؤال الخادمة فيركضون نحوها وينادونها (ماما ماما أين الطّعام)، وفي الوقت ذاته يصل زوجي حاملاً معه كيساً من الخبز والعصير، فيدخل الغرفة ليحييني بعد عناء يومٍ طويل، فلا أكلّف نفسي بأن أرفع بصري من شاشة الهاتف لكيلا أقطع (دردشتي) مع صديقاتي اللواتي يسكنّ خارج الدّولة، حيث إنّني أؤجل تواصلي مع صديقاتي الموجودات في نفس البلّدة لوقت آخر؛ لأنّهنّ منهمكاتٌ في تجهيز الغداء والعناية بالأطفال، لذلك فإن فارق الوقت أفادني وجعلني أتواصل مع صديقاتي المغتربات. بعد ذلك يسألني زوجي بامتعاضٍ شديد: (هل جهزّتي طعام الغداء)، فأجيبه ببرود شديد: (أمامك الخادمة اسألها) فينظر إليّ نظرة دهاء غريبة، وأحياناً أخرى يتفوّه بكلمات ما كنت أسمعها لعدم تركيزي معه، ثمّ يخرج مجرجراً معه غضبه إلى المطبخ ليسأل الخادمة عن الغداء فتجيب هي بكلّ أدب: ( بعد نصف ساعة سيكون في الطاولة ومعه كوب اللبن والقهوة لن أنساها بعد الغداء) فيبدأ غضب زوجي بالتّلاشي ويقول لها: (الله يعطيك العافية إنتي تتعبي معنا كثير) فأشعر لحظتها بأنني لم أسمع منه هذه الكلمة طوال حياتي معه، ثمّ أتابع حواري مع صديقاتي وأنا لا أزال على سريري، وبيدي المحمول وجهاز الحاسوب مفتوح على الفيس بوك، وبعد انتهاء وجبة الغداء يأتي وقت القيلولة ، الذي لم أكن أنم به؛ لأنّني ببساطة أكملت نومي كله في الصّباح، أغلق المحمول والحاسوب، وأذهب الى التلفاز لمتابعة المسلسل ، وعند انتهاء وقت القيلولة أوقظُ أطفالي لحل الواجبات المدرسية وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي كنت أفعله لأن؛ الخادمة لا تعرف أن تدرّسهم اللغة العربية والرياضيات، وبعد ذلك أعود من جديد لمزاولة مهنتي في الحياة (المحمول والحاسوب) اللذان لم أكن أضع حداً لهما، ولا وقتاً معيناً، حتى وإن كان زوجي في المنزل ويريد أن يتحدث معي تكون أذني معه وعقلي مع صديقاتي اللاتي كنّ يرفضن مبدأ الخادمات في منازلهن. ومع مرور الوقت أصبحتُ أنا وزوجي بعيدان تماماً عن بعضنا، هو في غرفته وأنا لأسبابي في غرفتي، ونشأ بيننا ما يسمّى (بالطلّاق الصّامت) كلانا يعيش حياته وما يربطنا معاً فقط الأولاد والخادمة، ومرّت الأيام تتلوها الأيام، وكبرت الفجوة بيننا، وزاد تعلقي بالمحمول ووسائل الاتصال التي قربت البعيد، إلى أن جاء اليوم الذي لم أحسب حسابة في أجندة أفكاري أبداً. فقد استيقظت كعادتي أترنح بعد سهر طويل طالبةً من الخادمة كأساً من العصير، فكانت الصدمة التي جعلتني طريحة الفراش لمده شهر أو يزيد، أنّها قالت لي: (آسفة اخدمي نفسك بنفسك فزوجك طلب مني أنا لا أعمل خادمة عندك فنحن متساويات الآن يا عزيزتي) عندها شعرت بذهول شديد، ولكني تمالكت نفسي إلى حين عودة زوجي ثمّ أخبرته بما تفوّهت به الخادمة فكانت الصاعقة حينما قال لي: (صحيح الأبناء لا يستطيعون الاستغناء عنها ولا أنا أستطيع ذلك، لذلك قررت أن أتزوجها، أمّا أنت فبإمكانك متابعة (الدّردشة) مع صديقاتك كما تشائين).
مشاركة :