عند الحديث عن الهجرة غير النظامية التي تشهدها منطقة البحر المتوسط والقارة الأفريقية في اتجاه أوروبا، يجري دائما ذكر الأسباب والدوافع الاقتصادية. وهذا التبرير، رغم صحته، إلا أنه يحجب جزءا هاما من الحقيقة، ويوهم أن حكومات المنطقة التي فشلت في تحقيق التنمية الاقتصادية هي الملامة عن تدهور الأوضاع في بلادها، وبالتالي تتحمل مسؤولية انتشار الفقر خاصة بين الشباب الذين لا يجدون فرصة للعمل. لتوضيح الصورة لا بد من تسليط الضوء على المشهد دون نقصان، وبدلا من التحدث عن أسباب اقتصادية فقط يجب أن نتحدث عن أسباب بيئة – اقتصادية للهجرة التي تشهدها المنطقة، وهو ما تتجنبه الحكومات الأوروبية تنصلا من تحمل المسؤولية. الحيلة التي تهدف إلى التعمية عن الأسباب الحقيقية للهجرات غير الشرعية مهددة بالسقوط. والبداية من داخل دول الاتحاد الأوروبي، من البرتغال تحديدا، حيث يقاضي ستة شبان وفتيان برتغاليين 32 دولة أمام القضاء الأوروبي بسبب تغير المناخ. ◙ في جميع الأحوال، بؤساء العالم لن يستأذنوا السيد ماكرون للتسلل للأراضي الفرنسية، وستفشل جهود الاتحاد الأوروبي في السيطرة على الهجرة غير النظامية كما فشلت جهود الولايات المتحدة ضمن الدول الـ32 المتهمة دول الاتحاد الأوروبي الـ27، إضافة إلى روسيا والنرويج والمملكة المتحدة وسويسرا. وبدأت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (الأربعاء 26 سبتمبر – أيلول) النظر في دعوى جماعية رفعها فتيان وشبان تتراوح أعمارهم بين 12 و24 عاما ضد هذه الدول لإرغامها على تقليص انبعاثاتها من غازات الدفيئة. وهذا إن تحقق، سيشكل سابقة قضائية تعزز مكافحة تغير المناخ على مستوى العالم. وقد تكون البرتغال التي شهدت حرائق أتت على عشرات آلاف من الهكتارات وتسببت في وفاة أكثر من مئة شخص عام 2017، إلى جانب اليونان وإيطاليا وإسبانيا، من أكثر دول الاتحاد الأوروبي تضررا من ظاهرة الاحترار. وتشكو هذه الدول، خصوصا البرتغال التي تعتبر نفسها على “الخط الأمامي لتغير المناخ في أوروبا”، من درجات حرارة وصلت في بعض الأحيان، حتى خلال شهر شباط – فبراير إلى 30 درجة مئوية. ويدرك الشباب خاصة حجم الكارثة وفداحة الأزمة المناخية المرتبطة بالاحترار، وما تشكله من تهديد على مستقبلهم إن لم تتخذ خطوات جدية سريعة للحفاظ على البيئة. لن تكون أوروبا مستقبلا مهددة بهجرات تنطلق من أفريقيا وشمالها عبر المتوسط فقط، بل ستعاني من هجرات داخلية تهدد استقرارها وأمنها الغذائي وبنيتها الديموغرافية. الدعوى الجماعية تتحدث عن انتهاك “الحق في الحياة” و”الحق في احترام الحياة الخاصة”، وهي حقوق منصوص عليها في الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان، ولاسيما في ما يتعلق بالالتزامات الدولية المنصوص عليها في اتفاق باريس المناخي الموقّع في عام 2015. وهناك أمل كما يقول محامي المجموعة جيري ليستون أن تصدر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قراراً “يكون بمثابة معاهدة ملزمة تفرضها المحكمة” على الدول وتوجهها “لتسريع جهودها من أجل التخفيف من تغير المناخ”. من وجهة نظر قانونية، سيكون هذا بمثابة “تغيير لقواعد اللعبة”. المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، تتعامل مع القضية على محمل الجد حيث جرى تصنيفها على أنها أولوية ستتم مناقشتها أمام الغرفة الأكثر جدية للمحكمة، الغرفة الكبرى، المكونة من 17 قاضياً. ◙ ضمن الدول الـ32 المتهمة دول الاتحاد الأوروبي الـ27، إضافة إلى روسيا والنرويج والمملكة المتحدة وسويسرا وهي كما تقول مصادر من داخل المحكمة “حالة فريدة من نوعها”، لاسيما في ما يتعلق بعدد الدول المعنية بالدعوى والقضية التي تتناولها. هذا ما يجري في البرتغال البلد الأوروبي، الذي تتداعى له دول الاتحاد في كل ضائقة قد يتعرض لها. فما بالك بالدول الأفريقية التي اكتسحها التصحر والجفاف وباتت في قلب أزمة غذائية حادة. حق الهجرة “الذي يعد حقا إنسانيا أساسيا، أصبح لدى الكثيرين أمرا ملزما بسبب الظروف الصعبة”، بهذا الكلام تحدث البابا فرنسيس في اليوم العالمي للمهاجر واللاجئ، مؤكدا أهمية أن يحظى المرء بالاختيار ما بين أن يبقى في موطنه أو يهاجر. للوهلة الأولى يبدو حديث البابا طوباويا، أو بأفضل الأحوال مبسطا، ولكن ما قاله عن حق المرء أن يحظى بالاختيار ما بين أن يبقى في موطنه أو يهاجر هو الأساس الذي يجب أن يؤخذ به. الغريب هو رد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على كلام البابا مكررا ما سبق أن قاله رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ميشال روكار “لا يمكننا أن نستقبل بؤس العالم برمته”. القضية التي رفعها الشبان والفتيان البرتغاليون الستة، مهما كانت نتائجها، ستكون بمثابة الرد على الرئيس الفرنسي الذي تثبت التجارب يوما إثر آخر أنه لا يرى أبعد من أنفه. دول أوروبا جميعها لم تفعل شيئا يا سيد ماكرون للحد من انبعاثات الغازات المسببة لمفعول الدفيئة وتأجيج أزمة الاحترار. وبينما الكارثة تتصاعد تستمتع أنت والطبقة المترفة من الفرنسيين بتذوق شرائح اللحم الذي تنتجه فرنسا من شمالها في النورماندي وبروتان وصولا إلى جنوبها على شواطئ الريفيرا. ◙ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بدأت النظر في دعوى جماعية رفعها فتيان وشبان تتراوح أعمارهم بين 12 و24 عاما ضد هذه الدول لإرغامها على تقليص انبعاثاتها من غازات الدفيئة مؤكد يا سيد ماكرون أنك تجيد التفريق بين مذاق شرائح اللحم الذي تنتجه كل منطقة في فرنسا، وتفضل لحوم بروتان التي يحرص الفلاحون فيها على تغذية أبقارهم على عشب ملحته نسائم ريح تهب من المحيط، وتتجاهل ما تسببه تربية الأبقار والخنازير من انبعاثات لغاز الميثان الذي يعتبر أشد خطورة من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تسببه السيارات وقطاع النقل. في جميع الأحوال، بؤساء العالم لن يستأذنوا السيد ماكرون للتسلل للأراضي الفرنسية، وستفشل جهود الاتحاد الأوروبي في السيطرة على الهجرة غير النظامية كما فشلت جهود الولايات المتحدة، فهي رغم إيقافها 10 آلاف مهاجر يوميا، لم تستطع أن تمنع 977509 أي ما يقارب مليون مهاجر من دخول أراضيها عام 2019، وانخفض العدد إلى النصف تقريبا بسبب جائحة كورونا ليعود للارتفاع لاحقا. المشكلة ليست على الحدود، بل في الدول المصدرة للهجرة. لن تستطيع أوروبا، التي تتحدث ليلا ونهارا عن حقوق الإنسان، أن تصم آذانها عن بؤساء العالم. المقاربة الأمنية قد تنجح لفترة محدودة ولكن لن تنجح دائما. إن لم تبد شيئا من المرونة يا سيد ماكرون وتتخلى عن لهجتك المتعالية في التعامل مع الدول الأفريقية ستواجه أنت وحكوماتك، ليس سيلا من اللاجئين فقط، بل مئات القضايا التي سيرفعها شباب أفريقيا ضد حكومتك وحكومات دول الاتحاد الأوروبي.
مشاركة :