"الأدب كثيرا ما ينقذنا من الوحدة، بمعنى يسهم في تخليصنا من خواطرنا السيئة المخجلة، أو على الأقل يجعلنا نعيها ونفكر فيها"، كان عبد الفتاح كيليطو حذقا حين استخدم كلمة "كثيرا" وليس دائما، فقائمة الأدباء الذين كانوا استثناء من هذه القاعدة في العصور الحديثة طويلة. صحيح أن الدوافع تختلف، باختلاف التجارب الذاتية والسياق الخاصة بكل أديب، لكنها تثبت في المحصلة أن الانتحار لدى طائفة من المبدعين أشبه بغواية العقل العارف الراغب في تحرير النفس من هواجسها، باختبار أقصى درجات الجرأة لديها. تنطبق هذه الحالة، أشد الانطباق، على الكاتب الأمريكي الشاب ديفيد فوستر والاس (1961-2008) الذي اختار وضع حد لمسيرة أدبية قصيرة لمبدع استثنائي، خريف 2008، بحبل من شرفة منزله مستغلا غياب زوجته. بهذا يكون الراحل، وآخرون كثر، استثناء عما ذكره كيليطو. ولا سيما أن اختياره الرحيل، بسبب الإفراط في الكآبة، جاء في ذروة مجده الأدبي. فقد خلف وراءه ثلاث روايات، وثلاث مجموعات قصصية، وستة كتب غير روائية تراوحت ما بين المقالة والتوثيق. حتى بعد رحيله، ظل فوستر والاس حاضرا بقوة في الأوساط الأدبية الأمريكية، بسبب ما تركه من نصوص وأعمال لم تر النور بعد، وفي مقدمتها روايته "الملك الشاحب" - نشرت 2011 - (548 صفحة)، وكذلك خطابه الثوري، بعنوان "هذا هو الماء"، الذي ألقاه على مسامع خريجي دفعة 2005 في كلية كينيون، حيث كسر بجرأته المعهودة القواعد المتعارف عليها في الأوساط الأكاديمية. بصم الراحل على مسار متميز منذ باكورة أعماله الذي جاء في 500 صفحة، وحمل عنوان "مكنسة النظام" (1986). وتبقى الرواية الضخمة - أزيد من 1000 صفحة - "دعابة لا نهائية" (1996) باب دخول الرجل إلى رحاب الأدب العالمي، إذ صنفت بحسب مجلة "تايم"، ضمن أفضل 100 رواية كتبت باللغة الإنجليزية، منذ عشرينيات القرن الماضي. ولم يتردد نقاد كثر، بالنظر إلى طابعها الاستشرافي ومنظورها التنبئي بأحوال المجتمع الأمريكي، في مقارنتها برواية "1984" الروائي البريطاني جورج أورويل. نسج والاس لنفسه أسلوبا مميزا، يمزج بين المتانة ورشاقة العبارة وعمق الفكرة ومرح الجملة، في سعيه الدؤوب بحثا عن الحقيقة. واستطاع من خلال تجربته الشخصية سبر أغوار النفس البشرية، وعي الذات للذات ثم العالم، الممزوجة بكثير من الموهبة التي مكنته من الترويض السهل والسلس للأفكار، فكانت النتيجة إعادة تشكيل جديد للعلاقة بين الكاتب والقارئ، فهو "لا يساوي شيئا عند القارئ إلا من خلال ما يكتبه". تحدث مرة في مقالة عن طقوس وكواليس الكتابة لديه، وعن كونه مبدعا روائيا عالميا، فكتب يقول، "... لعل أفضل استعارة تحضر في بالي هي رواية دون ديليلو (ماو II)، وذلك حينما يصف نفسه على أرضية المطاعم التي يأكل الكاتب منها، يظهر في نهاية السرير عند استيقاظ الكاتب صباحا... رضيع مشوه مخيف، رأسه غير مكتمل وبلا أنف، مكسور الذراع، لحوح ومختل... كلما اشتكى أو صاح بوجه الكاتب مطالبا إياه بالمحبة. إذن أنت في موقف محير: أنت تحب الرضيع وتريد من الآخرين أن يحبوه كذلك، ولكن هذا يعني أنك تأمل من الآخرين في الوقت ذاته ألا يروه بشكل سليم. إذا، تريد أن تخدع الناس بشكل ما: تريدهم أن يروه كاملا، وهو ما تعلم في قلبك أنه لا يمت بصلة للكمال". حضر التفرد في الأسلوب وفي المواقف أيضا، فحتى في الدين أكثر الموضوعات حساسية في الأوساط الأمريكية، والغربية بوجه عام، يسقط الرجل فكرة اللاعبادة مؤكدا بأنه "لا وجود للإلحاد في الأجزاء اليومية لحياة البالغين، فالقرار الوحيد الذي نملكه يتعلق بما نعبد". وفي نقد حاد لنظام الحياة الأمريكي، وهذا ليس بغريب من كاتب أول أعماله "مكنسة النظام"، يتحدث عن أنماط العبادة المنتشرة في الأوساط الغربية، بقوله، "إذا ما عبدت الأموال والأشياء، إذا ما كان في ذلك معنى الحياة الذي تبحث عنه، فلن تملك منها ما يطفئ جوعك ويشفي غليلك. اعبد جسدك... وجاذبيتك... وسترى نفسك بشعا دائما. وعندما تبدأ آثار الوقت والعمر في الظهور، ستموت ألف ميتة قبل أن يحزن الناس لموتك". جلد فوستر والاس في خطابه أمام خريجي الجامعة المجتمع الرأسمالي الطاحن، مشبها إياه بفصاحة، قلما نسمعها في الداخل الأمريكي، بأنه يشبه طابور القطيع. لذا رفض الانخراط فيه، وذهب أبعد من ذلك حين أعلن بأن هذا النظام لا يصلح للجميع، وربما لا يصلح لأحد، لأنه يقوم على مزيد من العمل لشخص منهك أصلا. وأضاف فيما يشبه الاعتراف "بعد 20 عاما من تخرجي، فهمت شيئا فشيئا أنه يمكن اختزال فكرة العلوم الإنسانية التي تتمحور حول موضوع «تدريسكم كيفية التفكير» في فكرة أكثر عمقا وجدية، ألا وهي «تعلم طريقة التفكير»". أدرك كثيرون أن والاس حين كان يخاطب طلاب الجامعة ثلاثة أعوام قبل رحيله، كان يحكي عن نفسه، حين دعاهم إلى التفكير مليا في المثل القديم القائل، "العقل نعم الخادم وبئس السيد". قد تبدو هذه المقولة، في نظر الراحل، مملة بالنسبة إلى كثيرين، لكنها "تحتوي على حقيقة مفزعة، فليست مصادفة أن يوجه كل الذين ينتحرون باستعمال أسلحتهم النارية طلقاتهم في اتجاه رؤوسهم. يطلقون النار على ذلك السيد البائس والحقيقة أن أغلب المنتحرين يموتون - فكريا - قبل ضغطهم على الزناد بوقت طويل". فهل يا ترى انطبقت هذه الخلاصة على والاس؟ وهل فعلا مات قبل قراره وضع حد لحياته؟ أيا يكن الجواب بالإثبات أو النفي، فحتما يقود إلى سؤال إشكالي آخر أكثر حيرة، بشأن قدرة إنسان "ميت فكريا" - المنتحرون بحسب الكاتب - على إبداع أعمال دخلت سجل تاريخ الأدب العالمي، وما قصة والاس، روائي الروائيين كما يصفه الناقد الشهير أنتوني سكوت، سوى دليل على ذلك، فما خلفه من درر أدبية متميزة قبيل انتحاره لا توحي قطعا بأنه كان في حالة موت فكري.
مشاركة :