العائلة موضوعٌ ثابت في معظم روايات الكاتب المغربي الطاهر بن جلون أو، على الأقل، ركيزة أساسية لطالما اعتمدها لمقاربة مواضيع اجتماعية أو سياسية راهنة لها علاقة غالباً بوطنه الأم، وبالتالي بعالمنا العربي. روايته الأخيرة، «زواج المتعة»، التي صدرت حديثاً عن دار «غاليمار» الباريسية، وتقع أحداثها في مدن فاس وطنجة وداكار، لا تشذّ عن هذه القاعدة. في قسمها الأولى الذي يعود بنا إلى أربعينات القرن الماضي، يسرد بن جلون، على لسان حكواتي حكيم، قصة امير وهو تاجر فاسي متيسّر يسافر كل عام إلى السنغال لشراء ما تحتاجه تجارته من بضائع. ومثل الكثير من مواطنيه الذين كان يجبرهم عملهم على الاستقرار فترات طويلة في إحدى الدول الأفريقية، لن يلبث هذا الرجل المتأهّل أن يلجأ إلى زواج المتعة خلال إقاماته المتكررة في داكار، فيعقد قرانه في كل مرة بشابة سنغالية جميلة تدعى نابو. زواج كانت تعلم به زوجته الفاسية وتغضّ الطرف عنه، مثل معظم النساء اللواتي كنّ في حالتها، لتفضيلها إياه على معاشرة زوجها بنات الهوى. ولكن ثمة حدوداً لهذا التسامح لن يلبث أمير أن يتجاوزها بوقوعه في حب نابو واقتراحه عليها المجيء إلى فاس للعيش معه كزوجته الثانية، فتنقلب حياته رأساً على عقب، ومعها حياة نابو. وفعلاً، بقبولها اقتراح التاجر امير، ستعاني هذه الشابة بسرعة من غيرة زوجته الأولى، خصوصاً بعد إنجابها منه توأماً، واحد أبيض والآخر أسود، وستعاني أيضاً من عنصرية أبناء المدينة تجاه الأفارقة ذوي البشرة السوداء الذين كان يُنظر إليهم تارةً كعبيد نظراً إلى استقدامهم من أوطانهم آنذاك للعمل كخدم، وتارةً كسحرة مشعوذين. نظرة تفسّر لماذا لن يعرف طفلَيّ نابو، في القسم الثاني من الرواية، القدر نفسه لدى بلوغهما سن الرشد. فبينما يتأقلم حسين، ذو البشرة البيضاء، داخل المجتمع المغربي وينجح في حياته العاطفية والمهنية، يفشل توأمه حسن، ذو البشرة السوداء، في العثور على الطمأنينة والسعادة لاختباره العنصرية، مثل أمه قبله. قدرٌ لن يلبث أن يعرفه أيضاً ابنه سليم، في القسم الثالث من الرواية، مع وقوعه ضحية لون بشرته لدى بلوغه سن العشرين. ففي أحد الأيام، يقصد هذا الشاب حي «صدّام» الشعبي في طنجة، بإيعاز من والده، ويشاهد بؤس الأفارقة الذين يقطنون هذا الحي، قبل أن تعتقله الشرطة بالخطأ وترحّله إلى السنغال. ولأن أحداً من رجال الشرطة في طنجة وداكار لن يصدّق بأنه مغربي، أثناء التحقيق معه، «تتحوّل بشرته السوداء إلى هويته الوحيدة» ويقرر الاستفادة من وجوده في داكار للتعرّف إلى مدينة جدّته نابو ولاختبار ما يعانيه الشبان الأفارقة أثناء سفرهم إلى أوروبا بطريقة غير شرعية. قصة حب جميلة إذاً لن تلبث أن تتحول تحت أنظارنا إلى مأساة رهيبة تتسلّط نتائجها على أجيال ثلاثة بسبب مشاعر الكراهية التي ما زالت تتحكّم في منطقتنا بسلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان. قصة نسج بن جلون خيوطها بطريقةٍ سمحت له بمقاربة مواضيع راهنة مهمة لا يختزلها موضوع العنصرية على رغم مركزيته وتسليط الكاتب الضوء على مختلف جوانبه. وفعلاً، من خلال قدر نابو وحسن وسليم، يضع الكاتب إصبعه على فصل تجارة الرقّ التي مارسها المغاربة حتى مطلع القرن الماضي وما زالت تكيّف نظرتهم السلبية إلى الأفارقة ذوي البشرة السوداء. تجارة جعلت من هؤلاء الأخيرين عبيداً في المغرب اختبروا الذل والجوع والضرب، إلى جانب العمل الشاق على مدار الساعة من دون معاش أو مكافأة. ومن خلال مرافقة سليم مجموعة من الشبان السنغاليين في سفرهم من وطنهم إلى المغرب سيراً على الأقدام، يصوّر بن جلون مصاعب هذه المغامرة الخطيرة ومعاناة الأفارقة الذين بدأوا يصلون بأعداد كبيرة إلى طنجة في مطلع تسعينات القرن الماضي على أمل العبور إلى إسبانيا، ثم تحولوا بمعظمهم، بعد فشلهم في العبور، إلى شحاذين في شوارع المدينة يعانون من أحكام أبناء طنجة المسبقة عليهم ويخضعون لمختلف أنواع المضايقات على يد رجال الشرطة. ولأن السود ليسوا ضحايا العنصرية الوحيدين في المغرب، يقارب الكاتب أيضاً، من خلال قدر الخادمتين اللتين تعملان في منزل أمير، موضوع الفتيات المغربيات اللواتي تستقدمهن العائلات المتيسّرة في المدن من القرى للعمل في منازلها بظروف تضارع بمأساويتها ظروف حياة العبد. موضوع يسمح لبن جلون أيضاً بالتطرّق مراراً إلى الطريقة المشينة التي ما زال أبناء المدن في وطنه ينظرون بها إلى أبناء القرى عموماً كأشخاص بدائيين ووسخين وفظّين، مركّزاً في هذا السياق على سكان مدينة فاس الذين لطالما اعتبروا أنفسهم «حرّاس الثقافة والحضارة» وتعاملوا مع سائر أبناء وطنهم باستعلاء. وحول الحياة في هذه المدينة، يقول: «في هذه المدينة التي لا أفق لها، حيث المنازل تتداخل في ما بينها والزنقات تنسج متاهةً ضيّقة، تبدو الحياة مكتوبة سلفاً، ويُجبر كل شخص على البقاء في مكانه. فبينما على المرأة عدم تجاوز الحدود التي خطّتها القرون لها، على الرجل الفقير الاكتفاء بظروفه البائسة، وعلى الثري متابعة طريقه نحو ثراءٍ أكبر من دون الالتفات إلى الخلف أو الشعور بظلمٍ». وثمة موضوع مركزي آخر تعالجه الرواية عبر قصة أمير وزوجتيه، ونقصد موضوع تعدد الزوجات الذي يتيح للكاتب فرصة كشف عدم اكتراث الرجل الذي يتزوّج أكثر من أمرأة لمشاعر زوجته الأولى وللجرح العميق الذي يسببه لها اقترانه بامرأةٍ أخرى. جرحٌ يؤدّي حتماً إلى صراعٍ صامت أو علني بين الزوجتين يدفع أولادهما دائماً جزءاً مهماً من فاتورته. لكن في حالة أمير تحديداً، يجعلنا بن جلون نتعاطف إلى حدٍّ ما معه لأن زواجه الأول كان مدبّراً ولم يرتكز على مشاعر حب مسبقة لزوجته المغربية، كما هو حال زواجه الثاني من نابو، وبالتالي لاستسلامه إلى هذه المشاعر حين اختبرها وإقدامه على تغيير حياته بسببها، وذلك على رغم رفض المجتمع المغربي آنذاك الرجل العاشق وتعرُّض من كان يقرّ بحبّه أو يتحدث عنه أمام الآخرين للسخرية والازدراء. تبقى نقطة أخيرة مهمة في الرواية يقاربها الكاتب من خلال شخصية كريم، ابن أمير من زوجته الأولى، التي تسمح له بتسليط الضوء على مرض المنغولية وإظهار كم أن المصابين به هم كائنات استثنائية تنبذ الشر ولا تعرف سوى الخير، وبالتالي تشكّل نعمةً ونموذجاً لمحيطها، بتفاؤلها وأيضاً بمحبتها غير المشروطة.
مشاركة :