المفكر الجزائري مالك بن نبي.. وفلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة

  • 10/6/2023
  • 02:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يعد‭ ‬المفكر‭ ‬الجزائري‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬ومدرسته‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المدارس‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬وصنع‭ ‬ملامح‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحديث،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬اهتمت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬الأخرى‭ ‬بدراسة‭ ‬مشكلات‭ ‬الأمة‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬حضارية‭ ‬شاملة‭ ‬ومتكاملة‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬جهوده‭ ‬لبناء‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحديث‭ ‬وفي‭ ‬دراسة‭ ‬المشكلات‭ ‬الحضارية‭ ‬عموما‭ ‬متميزة؛‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬تناولها‭ ‬أو‭ ‬المناهج‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التناول‭. ‬وكان‭ ‬بذلك‭ ‬أول‭ ‬باحث‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬أبعاد‭ ‬المشكلة،‭ ‬ويحدد‭ ‬العناصر‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الإصلاح،‭ ‬ويبعد‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬العوارض،‭ ‬وكان‭ ‬كذلك‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أودع‭ ‬منهجا‭ ‬محددا‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬مشكلة‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬والاجتماع‭ ‬وسنة‭ ‬التاريخ‭. ‬ ‮‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬مفكرا‭ ‬إصلاحيا‭ ‬بالمعنى‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬عند‭ ‬معظم‭ ‬من‭ ‬تناول‭ ‬مؤلفاته،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬‮«‬شخص‭ ‬الفكرة‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬بالأساس‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬منهجية‭ ‬واضحة،‭ ‬ومفكرا‭ ‬معرفيا،‭ ‬أدرك‭ ‬أزمة‭ ‬الأمة‭ ‬الفكرية،‭ ‬ووضع‭ ‬مبضعه‭ ‬على‭ ‬أُس‭ ‬الداء،‭ ‬وهو‭ ‬بنيتها‭ ‬المعرفية‭ ‬والمنهجية،‭ ‬إنه‭ -‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭- ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬رواد‭ ‬مدرسة‭ ‬‮«‬إسلامية‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬وإصلاح‭ ‬مناهج‭ ‬الفكر،‭ ‬وإن‭ ‬مفاتيح‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تملك‭ ‬قدرة‭ ‬توليدية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬المفاهيم‭ ‬والمنابع‭ ‬والعمارة‭ ‬الحضارية‭ ‬بكل‭ ‬امتداداتها‭ ‬وتنوعاتها‭.‬ ولا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬للفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬يعتبر‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬بمثابة‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وأبرز‭ ‬مفكر‭ ‬عربي‭ ‬عني‭ ‬بالفكر‭ ‬الحضاري‭ ‬منذ‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬ومع‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تمثل‭ ‬فلسفات‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة‭ ‬تمثلا‭ ‬عميقا،‭ ‬واستلهم‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة‭ ‬أعمال‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الغربيين‭ ‬فإن‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬بالذات‭ ‬يظل‭ ‬أستاذه‭ ‬الأول‭ ‬وملهمه‭ ‬الأكبر‭. ‬ ‮‬ومالك‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يخفي‭ ‬تأثره‭ ‬بفكر‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬ونظرياته‭ ‬حول‭ ‬العمران‭ ‬البشري،‭ ‬بل‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬شتى‭ ‬من‭ ‬كتبه،‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مذكرات‭ ‬حياته‭ ‬‮«‬شاهد‭ ‬القرن‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬ظهر‭ ‬‮«‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‮»‬‭ ‬وكأنه‭ ‬صدى‭ ‬لعلم‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬يهمس‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الأمة‭ ‬بلغة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فأظهر‭ ‬أمراض‭ ‬الأمة‭ ‬مع‭ ‬وصف‭ ‬أسباب‭ ‬نهضة‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ووضع‭ ‬الاستعمار‭ ‬تحت‭ ‬المجهر؛‭ ‬فحلل‭ ‬نفسيته،‭ ‬ورصد‭ ‬أساليبه‭ ‬الخبيثة‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأمم‭ ‬المستضعفة،‭ ‬وخاصة‭ ‬المسلمين،‭ ‬ووضع‭ ‬لهم‭ ‬معادلات‭ ‬وقوانين‭ ‬‮«‬الإقلاع‭ ‬الحضاري‮»‬‭. ‬ ينبني‭ ‬مفهوم‭ ‬الحضارة‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬نبي‭ ‬على‭ ‬اعتقاده‭ ‬الراسخ‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬مشكلة‭ ‬كل‭ ‬شعب‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬مشكلة‭ ‬حضارية،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لشعب‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬أو‭ ‬يحل‭ ‬مشكلته‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يرتفع‭ ‬بفكرته‭ ‬إلى‭ ‬الأحداث‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يتعمق‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬تبني‭ ‬الحضارات‭ ‬أو‭ ‬تهدمها‮»‬‭. ‬وانطلاقا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الراسخ‭ ‬بأهمية‭ ‬الحضارة‭ ‬وضرورة‭ ‬‮«‬فقه‮»‬‭ ‬حركتها‭ ‬منذ‭ ‬انطلاقتها‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬أفولها‭ ‬يحاول‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬إعطاء‭ ‬تعريف‭ ‬واسع‭ ‬للحضارة،‭ ‬يتحدد‭ ‬عنده‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬‮«‬توفر‭ ‬مجموع‭ ‬الشروط‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والمادية‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬لمجتمع‭ ‬معين‭ ‬أن‭ ‬يقسم‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬أفراده‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬طور‭ ‬من‭ ‬أطوار‭ ‬وجوده‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬إلى‭ ‬الشيخوخة‭ ‬المساعدة‭ ‬الضرورية‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطور‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬من‭ ‬أطوار‭ ‬نموه‮»‬‭.‬ والعناصر‭ ‬الضرورية‭ ‬التي‭ ‬تتشكل‭ ‬منها‭ ‬كل‭ ‬الحضارات‭ -‬حسب‭ ‬مالك‭- ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬وتميز‭ ‬وليست‭ ‬تقليدا‭ ‬وتبعية‭ ‬يدعو‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬كتاباته‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬إبداع‭ ‬بدائل‭ ‬فكرية‭ ‬ومناهج‭ ‬علمية‭ ‬مستقلة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬البيئة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬استيرادها‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬الأوربي‭. ‬ويلح‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الاستقلال‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬مشكلاتنا‭ ‬الحضارية‭ ‬والاجتماعية؛‭ ‬لأنه‭ ‬يعتقد‭ -‬كغيره‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬للحضارات‭ ‬الإنسانية‭- ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خصوصيات‭ ‬كثيرة‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬حضارة‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭. ‬‮«‬فلكل‭ ‬حضارة‭ ‬نمطها‭ ‬وأسلوبها‭ ‬وخيارها،‭ ‬وخيار‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬ذي‭ ‬الأصول‭ ‬الرومانية‭ ‬الوثنية‭ ‬قد‭ ‬جنح‭ ‬بصره‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حوله‭ ‬مما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬نحو‭ ‬الأشياء،‭ ‬بينما‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬عقيدة‭ ‬التوحيد‭ ‬المتصل‭ ‬بالرسل‭ ‬قبلها،‭ ‬سبح‭ ‬خيارها‭ ‬نحو‭ ‬التطلع‭ ‬الغيبي‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة‭.. ‬نحو‭ ‬الأفكار‮»‬‭.‬ ‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬الخصوصيات‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬نشوء‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬أن‭ ‬نشوءها‭ ‬سببه‭ ‬الوحي‭ ‬الرباني؛‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬حضارة‭ ‬خالدة‭ ‬خلود‭ ‬المبادئ‭ ‬والتعاليم‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬وتدعو‭ ‬إليها‭. ‬ ولهذا‭ ‬‮«‬فالحضارة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استيرادها‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬رغم‭ ‬استيراد‭ ‬كل‭ ‬منتجاتها‭ ‬ومصنوعاتها؛‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الحضارة‮»‬‭ ‬إبداع،‭ ‬وليست‭ ‬تقليدا‭ ‬أو‭ ‬استسلاما‭ ‬وتبعية‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬الذين‭ ‬يكتفون‭ ‬باستيراد‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬حضارات‭ ‬أخرى؛‭ ‬‮«‬فبعض‭ ‬القيم‭ ‬لا‭ ‬تباع‭ ‬ولا‭ ‬تشترى،‭ ‬ولا‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬حوزة‭ ‬من‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬كثمرة‭ ‬جهد‭ ‬متواصل‭ ‬أو‭ ‬هبة‭ ‬تهبها‭ ‬السماء،‭ ‬كما‭ ‬يهب‭ ‬الخلد‭ ‬للأرواح‭ ‬الطاهرة،‭ ‬ويضع‭ ‬الخير‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الأبرار‭. ‬فالحضارة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تباع‭ ‬ولا‭ ‬تشترى‭.‬

مشاركة :