التدوين التاريخي: أمة على رسلها

  • 10/7/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يعتبر التاريخ العمود الأهم في البناء الحضاري لأي أمة، ولذلك فلا عجب أن نلمس بوادر الاهتمام بكتابته وتوثيقه، وكان قد اقترن بالتفسير الديني، حتى تحرر التاريخ كعلم وفن من سيطرة المقدس، ليعيش حالته الطبيعية، الهادفة إلى دراسة المجتمعات وفقا لخصائص أفرادها البشرية، وهو ما أحال الحدث التاريخي بعد ذلك، من مجرد فعل غيبي تقرره الإرادة الإلهية، إلى فعل بشري يصنع خيره وشره الإنسان، طبقا لنوازعه وأهدافه، وتنفيذا لرغباته وتوجهاته. ويرجع الفضل في ذلك إلى العلامة ابن خلدون الذي دعا إلى النظر في الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها، حال دراسة النازلة التاريخية. وعلى اعتبار أن التاريخ يمثل الانعكاس المباشر لنوازع الإنسان الفطرية، والترجمة الواقعية لخلفياته الفكرية والأيديولوجية، فقد كان من اللازم تضافر مختلف العلوم الإنسانية في دراسة بواعث الفعل التاريخي البشري، إذ يجب على المؤرخ أن يستعين بنظريات علم النفس، وآراء علم الاجتماع، وقوانين علم الاقتصاد، وأفكار الجغرافيين، ومقولات ذوي الخبرة من أفراد المجتمع، حال عزمه دراسة الحدث وتداعياته، مع عدم إغفاله لأثر العامل الديني، الذي قد يكون له أثر غير مباشر في تداعيات مجرى بعض الأحداث السياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية. وقد تعددت أساليب الكتابة التاريخية وتنوعت مدارسها، فمن المدرسة الدينية في كتابة التاريخ وتفسير أحداثه، إلى المدرسة العقلية، ثم كانت المدرسة المثالية الهيجلية، ومن ثم المدرسة المادية الماركسية، علاوة على مدرسة التفسير الحضاري للتاريخ، وغيرها. ويعتبر العلامة المسلم عبد الرحمن بن خلدون المتوفى سنة 808هـ الموافق 1406م بنظرياته المشهورة التي ضمنها كتابيه (المقدمة، والتاريخ «المسمى كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر»)، المؤسس الأول لهذا المنهج القائم على الدراسة والمقارنة في مختلف الأسباب والدواعي الاجتماعية، والاقتصادية، إبان دراسة الحدث التاريخي، حيث عمل على مناقشة ما سجلته المصادر من خزعبلات وأساطير منتهيا إلى رفضها عقلا، واعتبارها من المبالغات التي يميل إليها الإنسان بطبيعته، كما اهتم بدراسة تأثير العوامل الجغرافية والاقتصادية على المجتمعات، إضافة إلى أنه كان من أوائل من بين أهمية الوثيقة كمصدر من مصادر التاريخ الرئيسية، واعتبر ابن خلدون أن الدولة في نشأتها وتطورها ومن ثم هرمها كالإنسان في نشأته وقوته ومن ثم هرمه، وهو ما ردده لاحقا بعض علماء مدرسة التفسير الحضاري. ثم توالى من بعده المؤرخون الأوروبيون على وجه الخصوص، الذين شكلت دراساتهم الأساس المنهجي لمدارس التاريخ الحديثة، الرافضة لما كان سائدا في الماضي من القبول بمختلف الروايات دون تمحيص، والداعية إلى الرجوع بالمتغير التاريخي، سلبا كان أم إيجابا، إلى المشيئة الغيبية، بحسب ما أرادته الآلهة عند الرومان الوثنيين مثلا، أو ما أرادته مشيئة الرب عند المسيحيين، أو باعتباره تنفيذا لقدر الله عز وجل عند عدد من المؤرخين المسلمين بعد ذلك؛ ودعوا إلى تحكيم العقل في تلك الروايات، ودراستها ضمن حدودها المتوائمة مع كوامن النفس البشرية، ونتائج المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في أية أمة، وهو ما وضح جليا بعد ذلك في ما عرف بالتفسير العقلي، ومن ثم التفسير المادي، إضافة إلى التفسير الحضاري للتاريخ. وقد تميزت كل مدرسة عن الأخرى بمعاييرها التي انطلقت منها واعتمدت عليها في قراءتها النقدية للحدث التاريخي، فالماديون اعتبروا أن الاقتصاد هو العمود الفقري المشكل لهوية الصراع التاريخي بين طبقات المجتمع، فيما اهتم أصحاب التفسير الحضاري بدراسة الوحدات الاجتماعية كوحدات حضارية متوالية ذات بعد مادي وروحي تتفاعل بحسب قدرتها على الاستجابة للمثيرات المصاحبة لها، وانصب اهتمام أصحاب التفسير العقلي على تنقية الرواية من البدع والخرافات، جاعلين من العقل الأساس في صناعة الحدث التاريخي وكتابته بعد ذلك. في هذا السياق التنويري يأتي كتاب «أمة على رسلها: تأملات من بلاد العرب» لمؤلفته الأميرة مها بنت محمد الفيصل، والذي سأخصص له المقال التالي بإذن الله، ويأتي ضمن سلسلة اهتمام مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية بالمروية العربية؛ لكني أردت أن أقدم له بهذه التقدمة، لإيماني بأن كاتبته قد استوحت جميع المدارس في ذهنها وهي تكتب أسطرها، ولذلك جاءت مضامين الكتاب قوية ومتماسكة، والمهم أنها منضوية تحت لواء منهجي يمكن تلمسه من قبل الباحث الأريب، وأظن أن ذلك بات نادرا اليوم في ظل عدم اهتمام عدد من الباحثين بتجويد نصوصهم؛ على أن الأخطر كامن في تفلت الرويبضة وهم الرجال التافهون الذين يتكلمون في أمر العامة وفقا لقول النبي الكريم، للحديث عبر منابر وسائط التواصل الاجتماعي في ثنايا المروية العربية، فكان أن أتوا بالطوام، والأسوأ حين يتم تقديمهم في معرض الكتاب الدولي باعتبارهم باحثون متخصصون، وتلك كارثة الكوارث. zash113@

مشاركة :