الشاعر طلال الجنيبي من الأسماء الشعرية العربية الخليجية الإماراتية التي استطاعت من خلال منجزها الشعري أن تشكل حالة شعرية إبداعية مغايرة ومتميزة حظيت بالدرس النقدي العربي لفنيتها ورؤاها الجديدة في صياغة الجملة الشعرية، وخلال مسيرة الجنيبي الشعرية التي توجها بمجموعة من الأعمال نذكر منها لا الحصر: "على ضفاف البوح" 2016، "على قيد لحظة" 2017، "الإمارات في القلب" 2018، "زوايا باريسية" 2018، "رباعيات الجنيبي" 2018، و"أراك عكسك" 2019 و"لإلاك لا لن" 2019 و"تصطاد ضوء" 2019... و"كآخر من يعود"، وغير ذلك من الأعمال الشعرية وتوقيعاته الصوتية التي تلامس شغاف القلوب بفنية عالية. الدكتور طلال الجنيبي شاعر امتاز بأسلوب فريد في تعاطيه مع القصيدة من خلال بصمة الإنشاد الشعري والذي أطلق عليه "التوقيع الصوتي"، ويصف الشاعر هذا الأسلوب بأنه "التوقيع الصوتي وهو مركبة القصيدة الحاملة لمضامين كثيرة تحمل صورة ناظم النصّ وهنا يعني به الشاعر، معتبره جنسا صوتيا لا يشبه الغناء ولا الإنشاد، وإنما هو كما يرى الجنيبي رداء للقصيدة.. رداء القصيدة الرطب، حيث يتوخى فيه الشاعر المزاوجة ما بين مبنى النصّ ومعناه، ويؤكد أن الإيقاع الصوتي الذي يقدم الشاعر من خلاله قصيدته بأبهى صورة ممكنة، حيث يلتقي صنفان من الفنون على أرضية واحدة، الغاية منها تقديم النصّ بطريقة جاذبة مغايرة السائد بما لا يخلُّ بالمعنى والمضمون". نلاحظ بما أشار إليه صاحب التوقيع الصوتي الذي لازم بواكير تجربته الشعرية ورؤيته الفنية بأنه يحاول أن يضفي إلى تجلياته الشعرية وتوقيعه الصوتي الذي يشنّف الآذان إليه تراتيله الشعرية أن يمنح نصه الشعري بعدا فنيا وجماليا ولمسة لا تخلُّ من الحسّ الإنساني الذي يراكب التطور الإيقاعي برؤى جديدة تنضاف إلى مضامين القصائد من حيث منحها إيقاعا صوتيا تعبيريا ينقله الشاعر بحسّه وروحه المحلقّة في فضاءات أكثر اتساعا في سموات التجلّي والإبهار، هذا البعد الجمالي والفني على أرضية القصيدة يضفي أيضا إيقاعا آخر يتوازى إيقاع القصيدة العروضي وهذه ميزة أخرى تنضاف إلى جلال القصيدة وتعكس البعد النفسي للشاعر ورؤاه المنبثقة من فلسفة جديدة تجاه مبنى ومعنى النصّ الشعري. ثمة من "توقيعه الصوتي" نقتطف منها هذا المقطع حيث يقول فيه: "ثمة من لا يتقن إلا أن يعدو من خلف السبَقِ من لا يفهم إلا هما يستشري من وقع القلقِ من يجري وبغير حذاءٍ رغم الشوك على المفترقِ من يترك خيراتٍ شتى ليرمرم من حول الطبقِ من يركض في وقعِ جهولٍ لا يتقن ترتيب النسقِ فيتوه ولا يسلك دربا يشقى رغم عديد الطرقِ من يحرث يوما بستانا من دون استيفاء العرقِ كي يسلب نوما من جفنٍ من أجل استعطاف الأرقِ من ينشق لحظة أنفاسٍ من غير استشعار العبقِ كي يسقي من غفلة ماءٍ فجرا لا يفطن للغسقِ فينام الصبح بساحته لتلوذ الشمس إلى الشفقِ ثمة من لا يكتب إلا بالغفلة في ظهر الورقِ كالأعمى يقرأ تفسيرا ليسوق القارب للغرق من لا يعرف إلا بصرا محجوبا محدود الأفق فتكون نهاية رحلته غطسا في شبرٍ من قلقِ ثمة من لا يتقن إلا أن يشرب من ماء الرهقِ ليزيد الماء به عطشاً يبقيه على حد الرمق". لنلاحظ إيقاعية اللغة وانسيابية القافية والجرس الموسيقي المنتظم، وكذلك حبكة الجمل الشعرية وجماليات التصوير الذي ينم عن دراية بالإيقاع المحمل بدلالات مرتبطة بإيقاع صوتي داخل النصّ يمتزج هذا الإيقاع مع الإيقاع الصوتي للشاعر أثناء الأداء، وهنا يذكرني بأسلوب الشاعر التونسي المنصف المزغني مع فارق كبير عند الشاعر الدكتور طلال الجنيبي والذي يميزه أكثر من حيث العُرب الصوتية وطبقاتها وإيقاعية الحروف والنغمات بحسّها الموهف. وهناك توقيع صوتي اشتغل الشاعر الجنيبي بحيث يأخذ المتلقي إلى أقصى مدى من الانسجام والانفعالات والعواطف التي تأسر وتعبر عن رسالة الشاعر إلى الجمهور ليتفاعل معه ويمنحه ويشاركه في نصّه الذي يؤديه ضمن لازمات موسيقية وهذه ميزة أخرى اتصف بها الشاعر الجنيبي من خلال قصائده التي وقعها بصوته. وللتمثيل على ما تم ذكره من قصيدته "تهفو إليك (توقيع صوتي)" لنلاحظ هنا الكلمة الشعرية السهلة التي لا تحتمل التعقيد، يقول في القصيدة الموقعة صوتيا: "تهفو إليكَ قلوبٌ هزَّها الولهُ يا من لهُ آخر المعنى وأولُهُ يا من يعودُ إليه العبدُ منكسرًا يدنو لعلَّ عظيمَ العفو يشملهُ من بعد ذنبٍ أناخَ القلبُ ناقتهُ وسارَ والتوبةُ الحسناءُ تحملهُ يهفو إليك جهولٌ رام مغفرةً لمَّا رآك برغم الذنب تمهلهُ يا كاشفَ الغيبِ يا من شأنه أبدا أنْ يستجيبَ وما أمضاهُ يفعلهُ نرجوكَ عفوًا يداوي وزرَ غفلتنا يَهدي لفردوسك الأعلى فندخلهُ بلا حسابٍ ولا أدنى العقاب لكي يصفو لنا ما كريم العفو يكملُهُ". وهنا، أقول بأن الشاعر طلال الجنيبي كغيره من الشعراء الذين أخلصوا لقصيدة العمود ويشتغل على قصيدته لتواكب تطور القصيدة وحداثتها بنفس شعري متدفق تأثر برموز الشعر العربي قديمه وحديثه من أمثال: أبوتمام والبحتري والمتنبي والشابي والرافعي وشوقي والجواهري ومحمود درويش ونزار قباني والسياب وغيرهم، هذا التأثر لم يكن تأثرا أو نسخة عن هؤلاء الشعراء وإنما كان له صوته الخاص الذي يميزه عن غيره من الشعراء وعن مجايليه، فهو شاعر يشتغل على قصيدته ويعمل التجديد والكشف عن جماليات اللغة والغوص في البناء الدرامي بحيث نجد قصائده بنية إنسانية درامية تعبر عن كوامن النفس البشرية المنصهرة مع الواقع من خلال السرد الشعري المنفتح على آفاق أكثر التصاقا بالمعطى اليومي. هذا، وتعتبر قصيدة "فضاء زايد" للشاعر طلال الجنيبي أول شعري على الإطلاق يحلّق في الفضاء حيث تجاوز الغلاف الجوي ليستقر هناك في تعبير رمزي مهم عن ما يمثله الشعر في ضمير الثقافة العربية عبر التاريخ وقصيدة "فضاء زايد" التي وصلت إلى محطة الفضاء مع البعثة الفضائية الإماراتية ورائد الفضاء العربي الإماراتي أصبحت منذ تلك اللحظة القصيدة الأولى في التاريخ التي تصل إلى ذلك المدى من الفضاء. قصيدة "فضاء زايد" تعبر عن الإخلاص لقائد أعطى الكثير لشعبه ووطنه ليكون في مصاف الدول وهو كذلك لغة عالية البناء.. قصيدة الوفاء لقائد ملك القلوب. وقصيدة "فضاء زايد" للجنيبي تقول كلماتها التي صاغها بماء القلب: "أإلى الفضاء ستنقل الاحلاما/أإلى ارتيادٍ يقتضيك لزاما/أإلى ارتقاءٍ لا يقاس بغيره/حتى يزيدك رفعة ومقاما/الكون سطر قصة ممشوقةً/وسباقهُ ألقى عليك سلاما/فأجبته يا أيها الوطن الذي/بالمجد ارخى ساترا ولثاما/لاحد يمنعنا ففي تاريخنا/فكرٌ أسال الحبر والأقلاما/فالسعي في قاداتنا بوابة/بالبذل حازو قفلها أعواما/كم أسعدونا بالمسرات التي/غطت سمانا رغبةً وغراما/قد قالها نبع الكرامة رمزنا/لما التقى وفد الفضاء سلاما/مرحى أبولو فالفضاء غمارنا/سنخوضه لنسابق الأعواما/قد قالها بالفعل قبل حديثه/وحديث زايد يبعث الالهما/يا زايدا كم كنت خيرا عارماً/كم كنت عقلا نافذا وحساما/كم كنت رمزا للتطور عندما/وجهت ان نهدي الفضاء أناما/فأجابك الأبناء ملء قلوبهم/فرسمت نهجا راقيا مقداما/أرسيت فكرا لن يتوه مريده/أطلقت من نبل العقول سهاما/لله درك كم نسجت بحنكةٍ/ثوب الحضارة فكرةً وكلاما/يا أيها الوطن المعانق فخره/دم للوجود قصيدة ووساما/اكتب بماء البذل قصة وحدةٍ/سبقت فجاوز واقعٌ أحلاما/عبرت فضاءً كي تقابله على/صدر الوجود بثغرها بساما/السبق دربٌ اصطفاهُ محمدٌ/والنهج يرفع دولة ومُقاما/المجد حلم من صناعة قائدٍ/والبذل درب نمتطيه كراما/نحو التطور للمجرة نرتقي/كي نستحث تعايشا وسلاما/قد عاش دوما ما تمنى زايدٌ/مذ كان يسكن بالفضاء خياما/فإذا بنا نمضي برؤيته إلى/عمق الفضاء لنصنع الأحلاما". هذه إطلالة سريعة على تجربة الشاعر الإماراتي الدكتور طلال الجنيبي، إطلالة تشبه الشهادة الإبداعية على منجزه الشعري وتفرده بتوقيعه الصوتي الذي يمتاز بأسلوبية جديدة في مشهدنا الشعري باعتماده على الأداء الصوتي المتقن والمعبر عن حسّ موسيقي يعتمد أيضا على المسرحة الشعرية أحيانا.. الشاعر الجنيبي بحاجة وقفات ووقفات لنسبر أغوار تجربته الشعرية ورسم معالمها وتناصتها مع الموروث الديني والمادة التاريخية.
مشاركة :