من ثمار زيارتي الأخيرة لأبوظبي لقائي الصديق الشاعر د. طلال الجنيبي، الذي تعرفتُ إليه منذ سنوات في مدينة فاس المغربية أثناء مشاركتنا في مهرجان دارة الشعر المغربي الذي كانت تنظمه الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة صاحبة الموسوعات الشعرية الكبرى. اسمتعت إلى طلال الجنيبي وأعجبتني طريقة إلقائه للشعر والذي يَطلق عليه "التوقيع الصوتي" وهو عبارة عن إلقاء نغمي للقصيدة وكأنه يقوم بتلحينها دون آلات موسيقية، وهي طريقة مميزة تجذب انتباه مستمعي الشعر، وتجعلهم يتفاعلون مع الشاعر أكثر من الشعراء الذين يلقون شعرهم بطريقة اعتيادية. ظننتُ للوهلة الأولى أن هذه الطريقة قد تغطي على عيوب فنية بالقصيدة، فيتستر الشاعر وراء التنغيم أو التوقيع الصوتي، ولكنني عندما قرأتُ قصائد الجنيبي وجدتُها تمتاز بالروعة والجِدة وتحمل أبعادًا فلسفية وصوفية ورؤى تهويمية تليق بالحالة التي عليها الشاعر أثناء إبداعه لنصه، كمثل قوله في قصيدة "لا توق إلاي": بعضي يدور على بعض المداراتِ ولا يتوق إلى حرث البداياتِ يا آخر العمر قصَّ القهرُ أجنحتي لما تلكأتُ عن حسم النهاياتِ لما تراجعتُ عني تاركا طُرُقي فعلقتني مصلوبًا بساحاتي لم يكن طلال الجنيبي قد أصدر ديوانًا شعريًّا عندما التقيته في مدينة "فاس" ولكنه كان لديه الكثير من القصائد، فحرضته على إصدار ديوان شعره الأول، وعندما التقيته منذ أسابيع في أبوظبي علمت أنه أصدر العديد من الدواوين الشعرية، بعضها ترجم إلى أكثر من لغة، بل أُعدت دراسات أدبية ونقدية في بعض أعماله الشعرية منها كتاب "توقيع صوتي" الذي صدر في مدينة فاس المغربية، ويضم قراءات في تجربته الشعرية لمجموعة من النقاد العرب، إعداد: زكرياء الزاير. وفي تلك الزيارة الأخيرة أهداني الصديق الجنيبي أربعة دواوين شعرية صدرت له مؤخرا، هي: "تصطاد ضوءًا" 2019 ويقول في إحدى قصائده: اقترابي ليس إلا ** لحظة تطرق بابي وغيابي احتفاءً ** لحضوري في الغيابِ هل ترى تفهم صمتي ** هل ترى تدرك ما بي؟ وديوان "أراك عكسك" 2019 وصدر عن مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون واتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وديوان "لولاه" 2022، عن دار نبطي للنشر، وديوان "تهفو إليك" 2022 عن دار نبطي للنشر. وطلال الجنيبي حاصل على دكتوراه في إدارة الموارد البشرية من جامعة نيوكاسل نور ثمبريا بالمملكة المتحدة في العام 2001، مع مرتبة الشرف، وعمل أستاذا جامعيا وخبيرًا دوليا في السلوك التنظيمي وإدارة الموارد البشرية. بدأ في نظم الشعر منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وقدم مئات النصوص الشعرية النوعية في مختلف أغراض الشعر، وعديد من الأصبوحات والأمسيات الشعرية الفردية والمشتركة، وشارك في لجان تحكيم الشعر وتقييم النصوص في مسابقات محلية وخارجية، وأشرف على صفحات شعرية في عدد من المجلات والدوريات في فترات مختلفة. حاز طلال الجنيبي على جائزة رئيس دولة الإمارات (خليفة الفخر) للعام 2015 لمجمل العطاء الفكري والإنساني. وجائزة أبوظبي التقديرية عام 2015 من سمو نائب رئيس مجلس الوزراء للإنجاز الثقافي والمجتمعي، ودرع التميز الشعري في الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، فضلا عن عشرات الجوائز وأوسمة التكريم وشهادات التميز والتقدير. وبالإضافة إلى الدواوين والمجموعات الشعرية التي سبق ذكرها، صدر للجنيبي: على ضفاف البوح، وعلى قيد لحظة، والإمارات في القلب، ورباعيات الجنيبي، وزوايا باريسية. وقد فاجأني طلال الجنيبي عندما التقينا في أبوظبي بأن كان مرشحًا لجائزة نوبل في الآداب العام الماضي 2022 من خلال بعض الجهات المهتمة بالشأن العربي مثل: المعهد الدولي للدبلوماسية الثقافية بالإمارات، ومركز الدراسات العربية والإفريقية بالهند، والمنتدى الدولي للتسامح والإبداع الثقافي بألمانيا. كان اسمه مدرجًا على لائحة الجائزة في العام الماضي، وتحمستْ له تلك الجهات التي رشحته بعد أن ألقى قصيدة "فضاء زايد" كأول نص شعري على الإطلاق يُحمل إلى الفضاء ويتجاوز حدود الغلاف الجوي الأرضي ليستقر هناك في تعبير رمزي مهم عن ما يمثله الشعر في ضمير الثقافة العربية عبر التاريخ. لقد صعدت قصيدة الجنيبي إلى الفضاء عبر البعثة الفضائية الإماراتية، بعد أن تجاوزت حدود الكرة الأرضية ممثلة لضمير الحضارة العربية والإنسانية. وبذلك أصبحت قصيدته منذ تلك اللحظة القصيدة الأولى في التاريخ التي تصل إلى ذلك المدى من الفضاء وتجتاز الغلاف الجوي لتجسر للعلاقة ما بين الثقافة والفكر والشعر والجمال الإنساني من جانب وما بين التطور العلمي والتقني من جانب آخر. فماذا قالت قصيدة طلال سعد الجنيبي التي استقرت في الفضاء الخارجي، وسجلت أنها أول قصيدة تصل إلى الفضاء في التاريخ الإنساني؟ تقول قصيدة "فضاء زايد": أإلى الفضاء ستنقل الأحلاما أإلى ارتيادٍ يقتضيك لزاما؟ أإلى إرتقاءٍ لا يقاس بغيره حتى يزيدك رفعة ومقاما؟ الكونُ سطَّر قصةً ممشوقةً وسباقهُ ألقى عليك سلاما فأجبته يا أيها الوطن الذي بالمجد أرخى ساترا ولثاما لا حد يمنعنا ففي تاريخنا فكرٌ أسال الحبر والأقلاما فالسعي في قاداتنا بوابة بالبذل حازوا قفلها أعواما كم أسعدونا بالمسرات التي غطت سمانا رغبةً وغراما قد قالها نبع الكرامة رمزنا لما التقى وفد الفضاء سلاما مرحى أبولو فالفضاء غمارنا سنخوضه لنسابق الأعواما قد قالها بالفعل قبل حديثه وحديث زايد يبعث الإلهاما يا زايدا كم كنت خيرا عارماً كم كنت عقلا نافذا وحساما كم كنت رمزًا للتطور عندما وجهت أن نهدي الفضاء أناما فأجابك الأبناء ملء قلوبهم فرسمت نهجا راقيا مقداما أرسيتَ فكرا لن يتوه مريده أطلقت من نبل العقول سهاما لله درك كم نسجت بحنكةٍ ثوب الحضارة فكرةً وكلاما يا أيها الوطن المعانق فخره دُمْ للوجود قصيدةً ووساما اكتب بماء البذلِ قصة وحدةٍ سبقت فجاوز واقعٌ أحلاما عبرت فضاءً كي تقابله على صدر الوجود بثغرها بساما السبق دربٌ اصطفاهُ محمدٌ والنهج يرفع دولة ومُقاما المجد حلم من صناعة قائدٍ والبذلُ درب نمتطيه كراما نحو التطور للمجرة نرتقي كي نستحث تعايشا وسلاما قد عاش دوما ما تمنى زايدٌ مذ كان يسكن بالفضاء خياما فإذا بنا نمضي برؤيته إلى عمق الفضاء لنصنع الأحلاما قصيدة وطنية عاطفية إنسانية تتغني بأمجاد الوطن وتاريخه وقائده. وللشاعر الكثير من القصائد الأخرى والمواقف الإنسانية التي تعبر عن حيرته وحيرة الإنسان في هذا الكون، وعن ثنائية الحياة والموت، يقول – على سبيل المثال - في قصيدة "موتان" (من ديوان لولاه): موتان من بعد الحياة وفي دهاليز الحياة وعي بفلسفة التساؤلِ عن معايير الممات لا شيء يفهم بعضه لا شيء يختبر السبيل لا كيف يخبر كيف نأوي بعد جهد للسباتْ إن فكرة الموت تشغل الشاعر دائما، فيعبر عنها في قصيدته "وبعد رحيلي" (ديوان تصطاد ضوءًا" قائلا: وبعد رحيلي سأبقي طويلا ويصبحُ هذا البقاءُ جميلا سيصحو الصباحُ وتشرقُ شمسٌ وتولدُ روحٌ لتغرسَ بذرة وتنبتُ زهرة لتنثرَ في الكونِ أصداء فكرة ولن يبقى ذكرُ رحيلي طويلا سيترك بعضي لبعضي قليلا وأعبرُ فوق فتاتِ الفتاتِ وتمضي الحياة. إن الحياة لن تتوقف برحيل أحد، وما البقاء إلا لله وحده، وهذه هي فلسفة الشاعر في الحياة، يبسطها في كلمات معبرة ومعان إنسانية بسيطة تصل إلى كل قارئ مهما كان مستواه الثقافي والأدبي. هذه المعاني التي يجيد طلال الجنيبي موسقتها أثناء إلقائها، فتكون أكثر تأثيرًا مما لو قرأها قراءة عادية، ومن هنا يأتي تأثير إلقاء الشاعر في مستمعيه. لقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي يهاب إلقاء شعره، ربما بسبب عيب خَلْقِي، فكان يختار بعض الشعراء لإلقاء قصائده من أمثال علي الجارم، ومحمود أبوالوفا، ولكن الجنيبي يجيد إلقاء وتنغيم وتوقيع قصائده توقيعا صوتيا محببًا، وكأنها أثناء ميلادها كتبت هكذا. وقد عرفت منه أن عددا من المطربين اتصلوا به لغناء بعض قصائده، ولكنه كان يعتذرهم إليهم، فهو لا يضمن أن تؤدَّى بنفس الإحساس الذي يؤديها بها. وهي وجهة نظر اختلف فيها معه. وسيظل السؤال الذي يشغل بالي منذ أن سمعت خبر ترشيحه لجائزة نوبل، هل سنفاجأ قريبا بخبر حصول الجنيبي أو أي شاعر عربي آخر على الجائزة العالمية، مثلما فاجئنا خبر حصول نجيب محفوظ - ظهر الخميس 13 أكتوبر/نشرين الثاني من عام 1988 (أي منذ خمسة وثلاثين عامًا) - على الجائزة. وهل ستكافئ نوبل الشعر العربي أخيرا، بمنحها لشاعر عربي، بعد أن ظل شعراء عرب على اللائحة منذ سنوات عديدة مثل أدونيس ولم ينالوها؟ ونختم بهذه الأبيات لطلال الجنيبي: لا توق إلاي صبري راعه ندمٌ يحبو بوادٍ تلاشت فيه لذّاتي فالصوت نادته رقصاتٌ تعمَّدها فوق الميادين أنواء العذاباتِ بعضي تخلَّى فباع البعضُ أوردتي فما تنفست إلا قهريَ العاتي كلّي نداءٌ إلى حينٍ يناغمني
مشاركة :