بصرف النظر عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف الانسحاب الروسي المفاجئ من الساحة السورية، والتخريجات المتعددة لهذا الانسحاب، تبقى روسيا لاعبا رئيسيا في أحداث هذه المنطقة، سواء من خلال رعايتها للنظام السوري على مدى السنوات الخمس، ودعمه عسكريا ولوجستيا ومعنويا، أم اعتراضها على كل القرارات التي تبناها مجلس الأمن للحيلولة دون تمزق الوطن السوري، وتطاير الشرر منه في كل الأنحاء، ولعلها الآن وبعدما جربت بنفسها اقتحام الساحة السورية عسكريا، وإن كان بدعوى محاربة داعش، وخرجت في وقت لا تزال فيه داعش على حالها، لعلها تكون قد أدركت استحالة الخيار الذي انحازت إليه، حينما فاضلت بين معادلة الانحياز لنظام البعث ممثلا في شخص الأسد، من منطلق تحالفها معه على حساب قضية وطن برمته، وشعب طالما عانى القمع والإذلال قبل أن يثور، ويتجرع أنكى المرارات من نظامه الذي نكل به، وشردّ نصفه، وقتل منه مئات الآلاف، وهجّر الناس من بيوتهم وحقولهم، حتى لم يعد هنالك من يستقر في مكانه سوى سكان أحياء وسط دمشق العاصمة المحيطة بالمالكي وساحة ذي قار والمهاجرين حيث مقرات الحكومة. لقد كان ثمن هذا الانحياز الروسي الذي خالف الاجماع الدولي باستثناء إيران، والميليشيات الطائفية التي تأتمر بأمرها، خمسة أعوام من الدماء النازفة، ومساحات شاسعة من الدمار والأرض المحروقة، وشتات الشعب السوري في كل المنافي بعد أقسى التجارب مع رحلات الموت عبر البحار، وقبل هذا وذاك ارتفاع معدلات مسوغات التقسيم، وتفتيت الدولة السورية بفعل الألاعيب الطائفية والمذهبية التي استخدمها النظام في حربه على الشعب والمعارضة، بمباركة إيران التي رأت في الحرب السورية حربها المذهبية التي ترفض المساومة حولها، والتي زجت فيها بأكبر جنرالاتها ليواجهوا مصيرهم هناك، وهو ثمن باهظ جدا، على روسيا التي تشكل اليوم إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الرعاة الرسميين لمؤتمر جنيف، عليها أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية، وأن تدفع ضريبة تدخلها إلى جانب النظام بإحقاق الحق، ورفع الغطاء السياسي عن نظام قمعي مارس ضد شعبه كل ألوان الغطرسة، ولم يتوان عن صب البراميل المتفجرة فوق رؤوس مواطنيه ممن وفّر قبورهم بدفنهم نصف أحياء مع أطفالهم تحت ركام منازلهم، وممن تحالف مع كل عصابات الدنيا ومرتزقتها لذبح شعبه، مقابل بقائه عنوة على كرسي السلطة، فهل تعيد روسيا بعد هذا الانسحاب قراءة موقفها من الأزمة السورية، وفقا لمستقبل مصالحها، مع شعب لن يغفر لها أنها ساهمت سياسيا وعسكريا مع طاغيته في ذبحه، وإطالة أمد موته على مدى سنوات خمس، كان من الممكن أن يسقط النظام في أيامها الأولى لولا دخولها مع إيران على خط حمايته، وهو الذي لا يستند على أي حاضنة شعبية، سوى حاضنة الرعب المخابراتي؟.
مشاركة :