من حق كل المواطنين أن يغردوا بما يريدون ليعبروا عن آرائهم ومطالبهم ويعينوا ولي الأمر على تعزيز التنمية ومكافحة الفساد، ومن حقهم نقد أي مسؤول بعلم وبأدب لا بجهل واعتداء درج عند الخليجيين ولاسيما السعوديين مثل يقول (الشيوخ أبخص)، وهو يعني شيوخ (الحُكم) بمعنى أنهم أعرف بالأمر وأدرى بالواقع وأحكم بالقرار، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وهم يتصورون الواقع أكثر من غيرهم لما يملكونه من قدرات وخبرات ومؤسسات وأدوات ومستشارين ينقلون المعلومة الصحيحة ويحللونها بدقة ويشورون بالمقترح ثم يصدر أمر (الشيوخ) بلا ارتجال نحو تحقيق المصلحة العامة للبلاد والعباد. ولكن الموقف من هذا (المَثَل) الذي أصبح (قاعدة) دارجة عند الكثير من الناس خصوصاً كبار السن الذين توارثوا هذه الجملة وورّثوها بعض الجيل الجديد يختلف من حالة إلى أخرى. فهناك فئة تفهم هذه الجملة بشكل إيجابي بمعنى السمع والطاعة ولكن بالمعروف، مع حفظ حق الجميع لاسيما القادرين على تقديم وجهة النظر ولو اعتبرها البعض مخالفة لمقتضيات التسليم لهذه الجملة، وهنا الفرق بين التسليم والاستسلام، فالتسليم لولي الأمر إيجابي ولكن الاستسلام له سلبي، وليس من مقتضيات السمع والطاعة، وهذا يؤكده موقف سلمان الفارسي رضي الله عنه حين غزوة الخندق مع النبي عليه الصلاة والسلام حينما لم يمنعه تسليمه للرسول بأن يستسلم ولا يقدم المشورة والنصيحة له بحفر الخندق، وهكذا الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع الخلفاء الراشدين حيث (بادروا) بتقديم النصيحة والمشورة ولم يعدوها عصياناً لولي الأمر أو مخالفة للطاعة بل هي من لوازم ومقتضيات السمع والطاعة والأمانة تجاه البيعة لولي الأمر، ولا يجوز السكوت عن المشورة فيما يحقق المصلحة العامة للعباد والبلاد، ومن ذلك عندما تحرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر في غزوة بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل على أدنى ماءٍ من مياه بدر، فقام الحُباب بن المنذر رضي الله عنه وقال (مبادراً من عند نفسه): يا رسول الله أرأيتَ هذا المنزل أمنزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ (لأن الرسول معصوم فيما يبلغه عن ربه من الوحي في شؤون الدين وليس بمعصوم فيما سوى ذلك من شؤون الدنيا) فقال الرسول عليه السلام للحُباب: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، فقال الحباب: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم (قريش) فننزله ونغوّر - أي نُخرّب – ما وراءه من القُلُب (جمع قليب وهو الذي فيه الماء من باطن الأرض)، ثم نبني عليه حوضاً، فنملأه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أشرت بالرأي، ثم تحول النبي بالجيش إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر، وهذه (مبادرة) من الحباب رضي الله عنه وليست مسيئة في حقه ولم يعتبرها النبي عليه السلام والصحابة من المعصية أو الخروج على الطاعة بل أيد عليه السلام رأيه وعمل بنصيحته وحققت مصلحة للنبي والصحابة وانتصروا في المعركة. وعليه فلا يحتاج الواحد منا اليوم إلى أن ينتظر من يطلب رأيه بل يجب على كل مواطن أن يبادر بالرأي والمشورة والنصيحة ولكن بعلم وعدل وأدب لا تتسبب في خروج ولا إساءة. في حين أن هناك تسليماً سلبياً واستسلاماً ضاراً بالوطن والمواطنين حينما تجد من يرد عليك حين مبادرتك بالرأي بقوله (الشيوخ أبخص)، وهذه الجملة كثيراً ما يوردها البعض في سياق خاطئ وضار بالمصلحة العامة، وهنا يجب التفريق بين المحرضين على ولي الأمر ومثيري التمرد وبين الناصحين المعينين ولي الأمر على مسؤوليته وأمانته، وهذا الرأي والمشورة والنصيحة لا يلزم أن تكون مقصورة على المستشارين في ديوان ولي الأمر ومجالس أمرائه ووزرائه وسفرائه، ومجالس علمائه وقضائه وشوراه، وغيرها من المجالس والمؤسسات، وإنما هي لكل المواطنين سواء كان خطيباً على منبره أو كاتباً في صحيفته أو مغرداً في تويتره، فالهدف تقديم الرأي والمشورة والنصيحة ما دامت مستوفية للشروط ومنتفية الموانع ومحققة للمصلحة العامة. والراصد للواقع الفكري والخطابي اليوم لاسيما مع الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي يلحظ الخلط بين الأمرين، فتجد فئة متطرفة تقول لك (الشيوخ أبخص) من أجل أن تسكتك عن تقديم الرأي، وتزايد عليك بالتخوين وأنك مثير للفتنة ومعزز للخوارج، وربما تقوم هذه الفئة بالاستعداء عليك، وفي المقابل فئة في الطرف الآخر تزعم أنها تقدم الرأي والمشورة والنصيحة وهي تزايد على ولي الأمر صاحب البيعة وتسيء له وتحرض عليه، وهنا لا بد أن ندرك أن من حق كل مواطن أن يغرد بما يريد فتويتر مثلاً منصة لكل المواطنين ليعبروا عن آرائهم ومطالبهم ويعينوا ولي الأمر على تعزيز التنمية ومكافحة الفساد، ومن حقهم نقد أي مسؤول كائناً من كان ما دام نقدهم بعلم لا جهل، وبعدل لا ظلم، وبأدب لا اعتداء، ويجب أن يبقى شعار (الشيوخ أبخص) محفزاً على الإيجابية لخدمة (الشيوخ) والوطن والمواطنين وليس سلاحاً لتكميم الأفواه والمزايدة على الناس.
مشاركة :