عقد مجلس جامعة الدول العربية يوم 10 آذار (مارس) الجاري جلسة طارئة على مستوى وزراء الخارجية لاختيار أمين عام جديد لجامعة الدول العربية خلفاً للدكتور نبيل العربي، الذي تنتهي فترة ولايته الأولى نهاية حزيران (يونيو) المقبل، وأفصح عن رغبته في عدم التمديد له لفترة ولاية ثانية، والنظر في طلب مصر ترشيح أحمد أبو الغيط، وزير خارجيتها الأسبق، لتولي هذا المنصب. وعلى رغم ما أبدته قطر والسودان من تحفظات على شخص المرشح المصري، واقتراح قطر تأجيل البت في هذا الموضوع شهراً آخر، إلا أن أياً من الدول الأعضاء لم يتقدم رسمياً بمرشح آخر، فضلاً عن أن المجلس لم يتحمس لاقتراح قطر تأجيل البت في اختيار أمين عام جديد، والذي لم يكن ليغير شيئاً من معطيات الموقف أو من توازنات القوى السائدة في النظام العربي. لذا لم يمثل قرار مجلس الجامعة تعيين أحمد أبو الغيط أميناً عاماً لجامعة الدول العربية مفاجأة حقيقية، ما عكس مفارقة لافتة للنظر، مقارنة بما جرى عام 2011. فحين عقد مجلس الجامعة جلسة مماثلة عام 2011 للنظر في تعيين أمين عام جديد للجامعة خلفاً لعمرو موسى، كان الدكتور مصطفى الفقي هو مرشح مصر الرسمي في البداية. غير أن الأجواء التي كانت سائدة إبان ثورات «الربيع العربي» شجعت دولاً أعضاء في الجامعة العربية للتحدث علناً عن ضرورة «تدوير» منصب الأمين العام وعدم ربطه بدولة المقر، وهو ما يفسر إقدام قطر في ذلك الوقت على التقدم رسمياً بمرشح آخر لشغل هذا المنصب. لذا شهدت الجلسة المخصصة لاختيار الأمين العام آنذاك، وللمرة الأولى في تاريخ مجلس الجامعة، تصويتاً فعلياً للمفاضلة بين أكثر من مرشح. ولأنه لم يسفر عن حصول أي من المرشحين المتنافسين على النسبة المطلوبة للفوز بهذا المنصب الرفيع، وهي ثلثا أصوات الدول الأعضاء في الجامعة، قررت مصر أن تتقدم بمرشح آخر هو الدكتور نبيل العربي الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية في ذلك الوقت، وهو ما أدى إلى إقدام قطر على سحب مرشحها بدورها، ليصبح الطريق ممهداً لفوز المرشح المصري بتوافق الآراء، فتجلت من جديد متانة القاعدة العرفية التي ربطت بين جنسية الأمين العام ودولة المقر، وهي القاعدة التي كانت قد ترسخت عام 1979 حين أقدم مجلس الجامعة العربية آنذاك على اختيار شخصية تونسية لقيادة الأمانة العامة بعد نقل مقرها موقتاً إلى تونس احتجاجاً على إبرام مصر معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل. تولى نبيل العربي قيادة الأمانة العامة للجامعة في مرحلة تاريخية بالغة الحساسية، بدأت بآمال عريضة في أن تتمكن الثورات العربية من إعادة بناء النظم السياسية العربية على أسس أكثر ديموقراطية تسهم في إحداث نقلة نوعية في مؤسسات العمل العربي المشترك، وانتهت بنتائج محبطة ومخيبة للآمال دفعت بالأمين العام لاتخاذ قراره بالتخلي عن منصب الأمين العام في نهاية فترة ولايته الأولى، بعد أن أدرك في يقينه أن النظم الرسمية العربية ليست مهمومة بإصلاح الجامعة أو بتمكين مؤسسات العمل العربي المشترك من القيام بدورها المنشود في الدفاع عن مصالح الأمة العربية وحماية الأمن القومي العربي. لذا يبدو أن قرار مصر بترشيح أحمد أبو الغيط لقيادة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية هو الوجه الآخر لقرار نبيل العربي ترك هذا الموقع، لأن كلا القرارين يعكس عمق الأزمة التي تجتاح الجامعة العربية وتهددها بالانهيار التام. خطاب نبيل العربي في الجلسة الأخيرة لمجلس جامعة الدول العربية يكشف بوضوح عمق الأزمة التي تمر بها هذه المنظمة الإقليمية. فقد سرد العربي في هذا الخطاب قائمة مطولة بمقترحات الإصلاح التي درستها الأمانة العامة دراسة وافية، بناء على تكليف القادة العرب، وأشار في شكل غير مباشر إلى أن هؤلاء القادة عجزوا عن اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتفعيل أي من هذه المقترحات، وبالتالي عكس حجم الإحباط الذي أصاب الرجل. لذا أعتقد أنني لا أبالغ إذا قلت أن خطاب نبيل العربي بدا وكأنه مرثية في نعي نظام إقليمي عربي يشرف على الهلاك، وأن إقدام مصر على ترشيح أحمد أبو الغيط لتولي الأمانة العامة للجامعة في مثل هذه الظروف يبدو وكأنه نوع من الإقرار الضمني باليأس من جدوى منظمة أصبحت في نظر الكثيرين في حاجة إلى من يتولى الإشراف على مراسم دفنها أكثر من حاجتها إلى من يضخ في عروقها أكسير الحياة. لقد تعاقب على قيادة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية رجال متنوعو السمات والقدرات، هم: عبد الرحمن عزام باشا (1945-1952) وعبد الخالق حسونة (1952-1972) ومحمود رياض (1972-1979) والشاذلي القليبي (1979-1989) وعصمت عبد المجيد (1990-2000) وعمرو موسى (2001 – 2011). وكان لافتاً أنهم جميعاً استمروا في مناصبهم إلى أن أجبرت ظروف قاهرة بعضهم على الاستقالة، مثلما حدث مع عبد الرحمن عزام باشا عقب تغيير النظام الحاكم في مصر عام 1952، ومع محمود رياض عقب قرار القمة العربية نقل مقر الجامعة الدائم في القاهرة إلى مقر موقت في تونس. لذا يعتبر نبيل العربي هو الأمين العام الوحيد في تاريخ الجامعة الذي قرر ترك موقعه بمحض إرادته، في مؤشر واضح على عمق الأزمة التي يمر بها النظام الإقليمي العربي في المرحلة الراهنة، وهو مؤشر سيلقي بظلاله حتماً على مستقبل الجامعة العربية. من المعروف أن ميثاق جامعة الدول العربية لا يخول أمينها العام سلطات أو صلاحيات خاصة تؤهله القيام بدور سياسي فاعل على الساحة العربية، ولا يتيح له هامشاً معقولاً من الحركة يسمح له بالتوسط لإجهاض الأزمات العربية قبل وقوعها أو للبحث عن تسويات لهذه الأزمات بعد اندلاعها. لذا يصعب الادعاء بأن السمات الشخصية للأمين العام كانت من بين العوامل التي أسهمت في إضعاف أو في تقوية جامعة الدول العربية أو كانت هي السبب الأساسي في ما حققته الجامعة من نجاحات أو منيت به من إخفاقات. فالواقع أن الأزمة التي تمر بها الجامعة العربية حالياً تعود إلى أسباب بنيوية تجد جذورها في غياب إرادة سياسية عربية موحدة تخلص في الدفاع عن المصالح العربية المشتركة وحماية الأمن القومي العربي. وما لم تعالج أسباب هذا الخلل البنيوي من جذورها فلن يكون بمقدور أحد انتشال الجامعة من الهوة السحيقة التي وقعت فيها. وللأسف فإن التنافس القائم حالياً بين الدول العربية للفوز بمنصب الأمين العام للجامعة يبدو أقرب إلى سباق للفوز بمكافأة ثمينة في نهاية الخدمة منه إلى سباق للفوز بموقع مؤثر يمكن من خلاله ممارسة القيادة والنفوذ. إذا كانت ثورات «الربيع العربي» قد برهنت على شيء فعلى هشاشة الدول العربية التي تتسم نظمها بقدر هائل من الفساد والاستبداد. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلن يكون بمقدور دول تديرها نظم هي بطبيعتها مستبدة وعاجزة عن إقامة مؤسسات وطنية في الداخل أن تنجح في بناء نظام إقليمي تتوقف فاعليته بالضرورة على مدى الالتزام بالقواعد والتقاليد الديموقراطية في عملية اتخاذ القرارات داخل مؤسساته. فذلك هو الدرس المستفاد من تجربة الاتحاد الأوروبي الذي قطع شوطاً هائلاً على طريق التكامل والوحدة، على رغم ما يواجهه من صعوبات كبيرة في المرحلة الراهنة. وقد أصبح واضحاً بما لا يدع أي مجال للشك أن مستقبل الجامعة العربية يرتبط ارتباطاً عضوياً بمستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي، ولذا فلن يكون بمقدور الدول العربية إقامة مؤسسات فاعلة على الصعيد الإقليمي إلا إذا نجحت أولاً في بناء مؤسسات ديموقراطية على الصعيد المحلي أو الوطني، وهو ما يتطلب أولاً وضع حد للحروب الأهلية المشتعلة داخل معظمها. مشكلة الجامعة العربية لا تكمن في جنسية أمينها العام، ولا حتى في مدى ما يتمتع به من كفاءة إدارية أو مهارة ديبلوماسية، لكنها تكمن في صناع القرار العرب الذين أدت انقساماتهم وصراعاتهم التي لا تنتهي إلى وصول العالم العربي إلى ما هو عليه الآن من تمزق وضياع. ولكي لا يصبح أحمد أبو الغيط أميناً مكلفاً بالإشراف على مراسم دفن الجامعة العربية، بدلاً من إصلاحها، على المسؤولين العرب أن يفيقوا من حالة الغيبوبة التي يعيشونها، فإذا لم يتنبهوا إلى حجم المخاطر التي تحيق الآن بأمتهم فمتى يتنبهون؟ * كاتب مصري
مشاركة :