تركيا تبتز أوروبا سياسياً ومالياً بورقة اللاجئين

  • 3/17/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

على امتداد التاريخ الإنساني، لعبت الهجرة أدواراً حضارية كبرى، حيث أتاحت نشر العلوم والثقافات والأديان، وسمحت بالتواصل والتلاقح بين الشعوب والحضارات. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية كان للمهاجرين القادمين من إفريقيا ومن مختلف مناطق العالم، دور كبير في إعادة إعمار وبناء أوروبا التي خرجت منهكة ومدمرّة جراء حربين عالميتين كانت كلفتهما على الاقتصاد والبيئة والمجتمع ضخمة بكل المقاييس. إن أجواء نهاية الحرب الباردة وما تلاها من رغبة متزايدة في توسيع الاتحاد الأوروبي من جهة، وتزايد وتيرة الهجرة الإفريقية إليه تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة من جهة أخرى.. دفعت الدول الأوروبية إلى سنّ مجموعة من القوانين، واعتماد العديد من التدابير والإجراءات من أجل الحدّ من التدفقات البشرية نحو بلدانها، الأمر الذي أسهم في تزايد نسبة الهجرة السّرية.. فقد راجت هذه الأخيرة مع توجّه الدول إلى فرض التأشيرات ومراقبة الحدود. ورغم التحولات التي شهدها العالم على مستوى الانفتاح الاقتصادي وتحرير التجارة الدولية، وفتح المجال أمام تداول المعلومات والخدمات بفعل رياح العولمة، فإن هذه الأخيرة استثنت من ذلك حرية مرور الأشخاص.. وأمام تزايد حدة الهجرة السرية في أعقاب اعتماد دول الاتحاد الأوروبي لتدابير صارمة في هذا الإطار، حمّلت دول الاتحاد مثيلاتها في الضفة الجنوبية للمتوسط مسؤولية محاصرة الظاهرة، معتبرة إياها مجرد دركي لسنوات عديدة.. عاد موضوع اللجوء والهجرة السّرية إلى الواجهة الأوروبية من جديد، تحت وقع تحولات الحراك العربي وما أفرزه من ارتباكات سياسية وأمنية، دفعت مئات آلاف الأشخاص إلى البحث عن فضاءات أكثر أمناً واستقراراً. يصرّ المسؤولون داخل الاتحاد الأوروبي على رفض أي مقترح يقضي بإيجاد حل موضوعي للمعضلتين، ينسجم مع قواعد القانون الدولي ذات الصلة، مع تفضيل الحلول الأمنية التي تمنع المهاجرين وطالبي اللجوء من الدخول إلى تراب الدول الأعضاء. لم تستطع دول الاتحاد مجتمعة بلورة استراتيجية متكاملة وبنّاءة في التعاطي مع الارتفاع المتصاعد للظاهرتين (الهجرة السرية وطلب اللجوء)، وهو ما ترجمته المواقف المتباينة المطروحة في هذا الصدد، بين من دعا إلى تقاسم أعبائها في إطار من التضامن والتنسيق، وبين من حمل دول الاستقبال المسؤولية في هذا الصدد، فيما لم تتردّد بعض الدول في المجاهرة بالدعوة إلى طرد المهاجرين وطالبي اللجوء، بعد ربطهم بمجمل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي أصبحت تعيش على إيقاعها العديد من دول أوروبا، في تنكر صارخ للقوانين والتشريعات الداخلية والدولية ذات الصلة بالهجرة واللجوء. وأمام هذا التضارب في المواقف، واستمرار تدفق اللاجئين والمهاجرين من مناطق مختلفة من العالم بحثاً عن فضاءات تضمن كرامتهم وإنسانيتهم، بعيداً عن الحروب والفقر والمعاناة.. من جهة، وتزايد المواقف والتصريحات اليمينية الداعية إلى إغلاق الحدود في وجه هؤلاء وربطهم بالتطرف والإرهاب وتهديد القيم الأوروبية.. من جهة أخرى، بدأ الأوروبيون في التفكير بإيجاد حلّ خارج نطاق التراب الأوروبي، وذلك بالتعويل على الدور التركي كسبيل لتخفيف العبء عن دول الاتحاد في هذا الشأن، بالنظر إلى كون هذا البلد يشكل نقطة عبور مكثّف نحو التراب الأوروبي. إن المراهنة على تركيا في هذا الصدد، تجد أساسها في أن معظم الوافدين من المهاجرين وطالبي اللجوء نحو التراب الأوروبي يمرّون عبر هذا البلد الذي تفصله حدود ممتدة مع سوريا المصدر الرئيسي للظاهرتين في الوقت الراهن. وتحتضن تركيا أكثر من مليوني لاجئ سوري، ومع ذلك فالتقارير ذات الصلة تشير إلى وصول حوالي ألفي مهاجر سري وطالب لجوء يوميا من جنسيات سورية وعراقية وأفغانية إلى اليونان عبر التراب التركي. ومن جانبها، وجدت تركيا في هذه المعضلة الإنسانية ورقة مربحة لاستخدامها في مواجهة الطرف الأوروبي على مستوى تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي لم تتح لها إمكانية تحقيقها في فترات وظروف إقليمية سابقة. ففي مقابل السعي الأوروبي إلى تحميل تركيا مسؤولية وقف عبور المهاجرين السريين نحو الدول الأوروبية، يحاول الطرف التركي وبمنطق -مصائب قوم عند قوم فوائد استثمار الأجواء المرتبكة التي تعيشها الدول الأوروبية في علاقتها بالأوضاع الأمنية والمالية وتنامي طلب اللجوء والهجرة السرية، في إعادة فتح مجموعة من الملفات العالقة، كما هو الأمر بالنسبة لمسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى الدول الأوروبية.. علاوة على الاستفادة من مساعدات مالية مهمة يقدمها الطرف الأوروبي في هذا السياق. تمكنت تركيا في السنوات الأخيرة من الظهور كقوة إقليمية وازنة، مستثمرة بذلك إمكانياتها الاقتصادية المتطورة واستقرارها السياسي، علاوة على الفراغ الإقليمي الذي أتاحه اختلال معادلات التوازن، بفعل تدهور النظام الإقليمي العربي منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم، ودخول عدد من دول المنطقة في متاهات من العنف والارتباك الأمني، كما هو الشأن بالنسبة للعراق وسوريا وليبيا. ويبدو أن حالة الضعف التي تعيشها دول الاتحاد في السنوات الأخيرة بفعل تبعات الأزمة المالية التي استنزفت إمكانات العديد من الدول الأوروبية ودفعتها إلى تبني سياسات تقشفية. إضافة إلى حالة النزوح الجماعي للمهاجرين وطالبي اللجوء غير المسبوقة باتجاه أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كلها عوامل سعت تركيا إلى توظيفها واستثمارها بشكل ذكي لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي تسمح لها بالتموقع كقطب فاعل في محيطه الإقليمي والدولي. فقد نجح الطرف التركي إلى حد بعيد في توسيع دائرة النقاش مع الأوروبيين ليتجاوز قضايا الهجرة واللجوء إلى قضايا اقتصادية وسياسية واستراتيجية حيوية تدعم تطوير العلاقات التركية الأوروبية على مختلف الواجهات. ويتجه الطرفان إلى تطبيق اتفاق يقضي بقبول الطرف الأوروبي لاعتماد تدابير تدعم الانضمام الفعلي لتركيا إلى الاتحاد وتمكين المواطنين الأتراك من الدخول لمنطقة شينغن دون تأشيرة، وبتسوية الأوضاع القانونية لكل مهاجر سوري قادم من تركيا مقابل ترحيل كل مهاجر سوري لا تتوافر فيه الشروط القانونية للحصول على صفة لاجئ باتجاه تركيا. ويراهن الطرف الأوروبي على الانخراط الفعال والسريع لتركيا في تنفيذ تعهداتها والتزاماتها في هذا الشأن، على مستوى إعادة المهاجرين السّريين الذين دخلوا إلى التراب اليوناني نحو تركيا، مع تحمل الطرف الأوروبي تغطية المصاريف المتعلقة بهذا الخصوص، وتمكينها من مساعدات مالية مهمة أخرى، خصوصا وأن أوروبا أصبحت مقتنعة بأن عدم الإسراع في بلورة تدابير تسمح بوقف دخول المهاجرين السريين وطالبي اللجوء إلى ترابها، سيتحول معه الأمر إلى أزمة حقيقية تواجه دول الاتحاد برمته وتهدد بانهيار اتفاقية شينغن المتعلقة بحرية التنقل.. فيما تسعى تركيا من جانبها إلى استثمار الوضع وكسب 3 مليارات دولار إضافة إلى الثلاثة الأخرى التي تم الاتفاق عليها سابقا علاوة على تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية الأخرى. ويعتقد الطرف الأوروبي أن التعاون التركي سيسمح بمحاصرة شبكات تهريب البشر كما سيدعم وصول المهاجرين وطالبي اللجوء بشكل قانوني إلى التراب الأوروبي. يبدو أن أحلام الكثير من الراغبين في البحث عن ملاذ آمن يضمن مستقراً أفضل، ستتبخر مع إقرار هذه التدابير، ولذلك تنتظر قوافل المهاجرين وطالبي اللجوء أيام شدائد مع تعقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية في عدد من دول العالم وبخاصة العربية منها، من جهة، وميل دول الاتحاد الأوروبي إلى نهج سياسة صارمة في هذا الخصوص من جهة أخرى. drisslagrini@yahoo.fr

مشاركة :