الفواكه بجميع أصنافها لها مواسم لا تحيد عنها، وبعد تطور وسائل النقل لم يعد هناك مكان في المعمورة بعيدًا عن مكان آخر، والآن تجد في أي (سوبر ماركت) فواكه الصيف في عز الشتاء، وفواكه الشتاء في عز الصيف. وهكذا تفتقت قريحة رجل أعمال خليجي، وأحدث مزرعة للنخيل في أستراليا، حيث إنه يعرف أن النخيل لا يطرح تمره هناك إلاّ في الصيف، وسوف يسيطر بذلك على أسواق الخليج في عز الشتاء بالبلح الطازج – خصوصًا إذا دخل شهر رمضان بدورة أشهر الشتاء. وبالمناسبة، فإنني أصطفي من كل الفواكه (الكرز) – وهو يسمى في المغرب الشقيق (حب الملوك)، وقد عرف أحد الأصدقاء بشغفي بتلك الفاكهة، وفوجئت به قبل أيام بعد أن عاد من دولة (جنوب أفريقيا)، بأن أهداني كرتونًا من هذه الفاكهة اللذيذة التي فرحت بها كثيرًا وتقبلتها بصدر رحب، مع قليل من الشكر الجزيل له. وتاريخيًا؛ فقد كبر بعيني واحترمت الخليفة (هارون الرشيد) لأنه يشاركني بعشق الكرز، وكانت العقبة الوحيدة التي تقف في وجهه للظفر بذلك أن الطبيعة البيئية في بغداد يصعب، بل ويستحيل، أن تزرع فيها تلك النبتة المباركة، وهي لا تؤتي أكلها الجيد إلاّ في لبنان، لهذا، فقد تفتقت قريحته أو عبقريته – إن شئتم – بأن جند مئات (الحمام الزاجل)، نعم الحمام الذي كان ينقل الرسائل من جبهات القتال، حوّل تلك الطيور بقدرة قادر من طائرات جوية مقاتلة، إلى طائرات مدنية مسالمة، وكانت كل حمامة يربطون بقدميها عشر حبات من الكرز، وتطير أو تقلع مئات الحمامات من لبنان دفعة واحدة، وما هو إلاّ يوم أو بعض يوم، حتى تحط بأمان على أسوار قصر هارون الرشيد ببغداد، وتعود أدراجها لتنقل الدفعة الثانية، وبعدها الثالثة والرابعة... وهكذا دواليك إلى أن ينتهي الموسم. ويكون الخليفة طوال شهر ونصف يأكل هنيئًا مريئًا من (حبات الملوك) وهو متمدد على أريكته مستمتعًا بغناء (إبراهيم الموصلي) ورقص بعض المحظيات المختارات على (الفرازة). من قال: إن العرب والمسلمين يعوزهم الإبداع والعبقرية؟! ألا خسئ من قال (!!). لا أدري هل من سوء أو حسن حظي أنني لست في موقع (الرشيد)، لأنني في تلك الحالة لا أستطيع أن أركز؛ إما الكرز أو المحظيات، فأنا مخلوق شبه متخلف لا قدرة لي على عمل شيئين في وقت واحد، فعلى سبيل المثال، لو كنت أسير وفي فمي علكة – أي لبانة - إما أن أتوقف عن السير وأعلك، أو أسير وأنا مطبق على حنكي. حقًا إن لله في خلقه شؤونًا.
مشاركة :