لا ليل كليل غزة، ولا نهار كنهارها، الموت يخيم في كل لحظة، وفي قطاع كعزة 40% من سكانه هم أطفال، فالصواريخ تقتل في أي لحظة. تقتل الأحلام، وتشنق الآمال، وتسحق أمنيات شعب بحقد المعتدي، الذي ينتظر أتفه مبرر لقصف المستشفيات، وتدمير المدارس وهدم المساجد والكنائس ودور العبادة في تأكيد على انتمائه للإرهاب الذي لا يميز بين عقيدة ولا ملة ولا جنس ولا لون. لا أمثلة مؤلمة اليوم أكثر مما يحدث في غزة، حيث يفقد الممارسون الصحيون حياتهم وهم يجرون عمليات إنقاذ الحياة على ضوء مصابيح الجوالات، أو تنفيذها بدون التخدير الطبي اللازم قبل الجراحة، بسبب النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، أو حيث يبحث من تبقى من أهالي الضحايا عن بقايا أشلاء وأنصاف جثث أطفالهم التي لم تسلم حتى وهي في حرم هذه المستشفيات والملاذات التي يفترض أن تكون آمنة مقدسة. العالم يفقد إنسانيته في غزة الآن مثال حاضر لما يقوله المفوض العام لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فيليب لازاريني، أن "العالم يفقد الآن إنسانيته"، وهذا العالم وهو العالم الغربي وكل مؤيد للكيان الصهيوني الذي دعمه علناً وفعلاً وصمتاً في قتله للأطفال والنساء وكبار السن ومناطق الإغاثة الإنسانية دون أدنى اعتبار إنساني. في غزة المكلومة تسجل كل لحظة المذابح المروعة والهمجية والتهجير القسري والعقاب الجماعي. وبكل صور الانتهاك للقانون الدولي والإنساني. ليس هذا فحسب فإلى جانب ذلك يتم قطع كل مقومات الحياة من ماء وكهرباء وإمدادات الغذاء، حيث ينتظر العالم، العالم بأسره أن تعطف دولة واحدة معتدية مغتصبة أن تعطف وتسمح بفتح ممر "رفح" للسماح بدخول القوافل الإنسانية التي تنتظر، والتي قد تقصف بلا أي سبب. الموت ينتظرنا في كل مكان وحتى الآن أصبحت كثير من غزة غير قابلة للحياة البشرية، وها هي إسرائيل توجه الإنذارات لما تبقى من مستشفيات في غزة للإخلاء تمهيداً لضربها، تلك المواقع الإنسانية التي تحتضن مئات المرضى وآلاف النازحين الهاربين من جحيم القصف اللحظي، الذي يطاردهم في كل مكان، إن بقوا قُصفوا وإن خرجوا إلى أماكن طلب منهم الخروج إليها كمناطق أمنة قُصفوا ايضاً. وإن لجؤوا للمواقع الإنسانية التابعة للأمم المتحدة لم يسلموا أيضاً. يقول تقرير لفريق التدقيق في بي بي سي نيوز عربي إنه لاحظ تشابهاً بين بعض الفيديوهات والصور المتداولة للأماكن التي قصفها الجيش الإسرائيلي والأماكن التي وجه إليها سكان غزة للاحتماء فيها. ويثبت التقرير أن منطقتين من الأربع مناطق المحددة من قبل إسرائيل على أنها مناطق آمنة تم قصفها بالفعل في وقت لاحق. أما على صعيد القصص المبكية فهي كثيرة. ومنها ما نقل من وصف معبر عن الطبيب البريطاني الفلسطيني، غسان أبو ستة، في منشور على شبكة الإنترنت من غزة: "لا يوجد مكان أكثر عزلة في هذا الكون من سرير طفل جريح لم يعد لديه عائلة تعتني به". والدكتور غسان هذا كان جراح تجميل متخصص في بريطانيا ولكنه عاد لمستشفى الشفاء في غزة ليعالج المصابين والمنكوبين من جراء الغارات الإسرائيلية. لا أمان أبداً. تصف الفلسطينية سمر شرف الوضع لوكالات صحفية عالمية بقولها: النزوح لوحده قصة عذاب. ومن بلدة بيت حانون إلى وجهتنا نحو مدارس الأونروا الدولية كانت الصواريخ تنهال حوالينا وعلى المدارس، صدمتنا الأونروا وهي تعلن "مؤسساتنا غير آمنة"، لا ماء ولا كهرباء ولا مقومات حياة. لدينا مرضى بالسكري ولا أدوية.. هل سنموت؟ أو متى تنتهي هذه الكارثة. "اشتقت لأسرتي كثيراً" وفي غزة يقوم الأطفال من نومهم ليجدوا أنه تم قصفهم وأنه لم يعد لا أب ولا أم. ومنهم الطفل عودة أبو بكر (12) عاماً الذي وصف اللحظات الأخيرة مع عائلته: " كنا نجلس مع أبي وأمي نتسامر ونضحك ولم نشعر بأن القصف سوف يصيبنا يوماً ما خلال الحرب. صباح أمس سمعنا صوت صواريخ ومن ثم كان هناك دخان كثيف وأشياء سقطت على جسدي، جاء أحدهم لانتشالي من تحت الأنقاض كنت مصاباً. سألت عن أبي وأمي قالوا لي وهم يبكون: "ذهبوا إلى مكان أفضل من هنا". منذ أمس وأنا أبكي بشدة أريد عائلتي اشتقت لهم كثيراً". هذه القصة تكررت كثيراً لمئات الأطفال في غزة. "نحن في غزة نحب الحياة ونحب الورد" وفي غزة أيضاً من الطبيعي أن ترى طوابير الأطفال يصطفون للحصول على الماء، وهم يتأملون السماء مع كل صوت للطائرات. تروي منى خضر لبي بي سي: " ظلام مخيف، الطائرات الحربية تغزو سماء وأرض غزة، القلق يقتل من تبقى يتنفس خوفاً على أطفاله ومن تبقى من أهله، نتلقف أخبار القنوات الإعلامية على مواقع الفيس بوك أو على الواتساب، نشحن البطاريات نهاراً بأية بدائل حتى يبقى ضوء بسيط أو نقطة تواصل ليلاً لأن ليل غزة موحش. نتفقد أطفالنا بين الحين والآخر، نحاول أن نخفف عنهم هول ما يعيشونه. في كل ساعة مجزرة جديدة وعائلات تسقط وتبقى تحت الركام، نحن في غزة نحب الحياة ونحب الورد ونحب لقاء أحبتنا وضحكاتنا". هذا فيما تروي (يورونيوز) عن أحد الفلسطينيين المسيحيين يقول بعد قصف كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس بغزة: "لم يعد لدي مكان للذهاب إليه". ويقول آخر: "ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه. لقد قصف منزلي، أين سأذهب الآن؟ أين سنذهب، لا يوجد مكان آخر. أنا مسيحي في غزة. أنتم تقصفون المسيحيين والمسلمين في غزة". في غزة كل يوم يكتب التاريخ شهداء جدد، وحكايات أكثر ألماً. هي في حقيقتها الوجع للضمير الإنساني، وفي عمقها المذلة لكل المؤيدين والداعمين لقوى الاحتلال والظلم. إنها وصمة عار لا يمكن إزالتها إلا أن يظهر الحق. وسيظهره الله العظيم ولو بعد حين.
مشاركة :