إذا كانت الطّباعة في عصرنا الحديث قد بلغتْ مبلغًا عظيمًا من التّطوّر والنّماء، ثمّ أخذت الوسائل الإلكترونيّة (الرّقميّة) تحلّ محلّها في حفظ المواد وإذاعتها بين النّاس، فإنّ المخطوطات العربيّة القديمة كانت في العصور السّالفات مَحَجَّةَ الأقلام ومنارةَ العقول وحاضنةَ الفكر، تَحفَظ لنا الكتب والمؤلَّفات في مختلف المناحي الأدبيّة والعلميّة: في الشّعر، والنّثر، والبلاغة، والنّحو، والصّرف، وفي الفلك، والطّبّ، والرّياضيّات، والجغرافيا، والعلوم الطّبيعيّة. والمخطوط، أو المخطوطة، والجمع مخطوطات، هو النّصّ المكتوب باليد، كان الأديب أو العالِم أو النّاسخ يَخطُّهُ على الجلد أو الورق، أو غيرهما من أدوات الكتابة التي كانت شائعة في العصور القديمة. ومن هنا نقول: هو مخطوط، وكتابٌ مخطوط، ونسخةٌ مخطوطة، ونسخةٌ خطّيّة، وهي مصطلحات متعدّدة يشير بها الباحثون والنّقّاد إلى المؤلَّفات المكتوبة باليد. ونقول أيضًا: المخطوط والمطبوع، لنشير إلى كتاب من الكتب وندلّ على صورته الخطّيّة وصورته المطبوعة. ولعلّ الكثرة الكاثرة من النّاس يجهلون أنّ الكتب العربيّة المطبوعة من الأدب القديم كانت في الأصل كتبًا مخطوطة، وأنّ العلماء والباحثين قد أنفقوا شهورًا متّصلة يَدرسون مخطوطات هذه الكتب حتّى يَتيسّر لهم إعدادُها للطّبع على أحسن وجه. وربّما أمضى الباحث شطرًا من حياته وهو يراجع النّسخ المتعدّدة من مخطوطة الكتاب، ويقابل بعضها ببعض، ويُنبّه على أوجه الاختلاف بينها، ويَتبيّن اسمَ المؤلّف أو اسمَ النّاسخ، ويجتهد في الوقوف عند أدقّ النّصوص وأَسْلَمِها من التّحريف، ثمّ يهيّئ المادّة للطّبع. كان ديوان الخنساء مخطوطًا ثمّ طُبع، وكان كتاب الأغاني للأصفهانيّ مخطوطًا ثمّ طُبع، إلى غير ذلك من المؤلَّفات المأثورة من أدبنا العربيّ. وإنّي لأجد بهجةً دفّاقةً في أعماق القلب، وفخرًا عظيمًا أطاول به النّجوم والكواكب، حين أُسرّح النّظر في آفاق المخطوطات العربيّة، بل في هذا البحر الطّامي من المخطوطات في أدبنا العربيّ، ألتفتُ ذات اليمين، وأُرسلُ النّظر ذات الشِّمال، فلا يكاد البصر يبلغ هذه الأرجاء القصيّة والأنحاء الشّاسعة، وقد ترك لنا القدماء من كبار الأدباء وجِلّة العلماء كنزًا نفيسًا وإرثًا جليلًا، لا نكاد نحصيه لكثرة ما فيه من المخطوطات، وقد بلغتْ عددًا ضخمًا أقلُّهُ الآلاف المُؤلَّفة، وهي محفوظة في المكتبات والجامعات والمعاهد في مختلف الأقطار والدّول في العالم. وقد أتيح لي أن أطّلع على نفائس المخطوطات العربيّة التي تكتنزها المراكز البحثيّة في القدس، والقاهرة، ولايدن، وبرلين، وباريس، وغيرها. ولا بدّ لنا من الإشارة بإيجاز إلى ثلاثة أمور يجب أن نَفطن لها في حديثنا عن المخطوطات: الأمر الأوّل: إنّنا فقدنا كثيرًا من المخطوطات العربيّة القديمة، ولا نزال نتجرّع مرارة فقدها وحسرة ضياعها. وقد كان لهذا الأمر الجسيم أسباب كثيرة، غير أنّها تتّصل اتّصالًا شديدًا بما اختلف على الأقطار والأمصار العربيّة من المحن والشّدائد، فلم تَسلَم المخطوطات من غوائل الضّياع والتّلف. هَوَتْ هذه المؤلَّفات في هُوّة التّاريخ، وبقيتْ أسماؤها في السّجلّات تندب العقول التي رحلتْ معها. والأمر الثّاني: إنّ المكتبات والمراكز البحثيّة في عصرنا الحديث قد أتاحت للقارئ فهارسَ ورقيّة وفهارسَ إلكترونيّة، يستطيع أن يطالعها بحثًا عن المخطوطة التي يريدها. أَذكُرُ من هذه المراكز دارَ الكتب في القاهرة، ودارَ الكتب في بغداد، وأَذكُرُ أيضًا المكتبات الفلسطينيّة العريقة في القدس، كمكتبة دار إسعاف النّشاشيبي، والمكتبة الخالديّة، والمكتبة البُدَيْرِيّة. ثمّ إنّنا نستطيع أن نعود إلى المراجع التي وضعها العلماء، وقد بذلوا جهدًا عظيمًا في البحث عن المخطوطات العربيّة في العالم، كالأستاذ فؤاد سزكين وكتابه «مجموعة المخطوطات العربيّة في مكتبات العالم» (مُترجَم)، والأستاذ كارل بروكلمان وكتابه «تاريخ الأدب العربيّ» (مُترجَم). على أنّنا لا نجد حتّى يومنا هذا فهرسًا واحدًا جامعًا للمخطوطات العربيّة في العالم، وإنّما يلزمنا أن نعود إلى المصادر والفهارس للبحث والنّظر. والأمر الثّالث: أنّ الباحثين استطاعوا أن يَدرُسوا كثيرًا من المخطوطات العربيّة القديمة ويُخرِجوها إلى النّاس في كتب مطبوعة بعد أن تَجشَّموا وَعْثاءَ البحث والتّمحيص (وهو ما يُعرَف بتحقيق المخطوطات). ولكنّنا نجد آلافًا من المخطوطات العربيّة لا تزال تنتظر إلى يومنا هذا مَن يتناولها بالبحث والتّحقيق ويُشرِف على إعدادها للطّبع. وهو فضل عظيم يسديه الباحث في الأدب العربيّ حين يستخرج هذه القلائد النّفيسة من المعرفة ويَحملها إلى النّاس. ولنا في كثير من الباحثين قدوةٌ صالحة وأمثولةٌ حسنة، أَذكُرُ منهم الأستاذ ناصر الدّين الأسد، والأستاذ محمود محمّد شاكر، والأستاذة عائشة عبد الرّحمن (بنت الشّاطئ)، جزاهم الله كلّ خير وسقى ثراهم من شآبيب رحمته كلّ حين. وأودّ بعد هذا كلّه أن أقف عند دراستين من الدّراسات الأكاديميّة التي أعددتُها لنَتبيّنَ فيها شيئًا ممّا يلقاه الباحثون في دراسة المخطوطات وتحقيقها. أمّا الأولى، فهي دراسة تتّصل بالغزل في كتاب «الزَّهْرَة» للأديب والفقيه البغداديّ محمّد بن داود الأصفهانيّ (توفّي سنة 910)، وقد جعله المؤلّف في مئة باب: خَصّص الأبواب الخمسين الأولى للغزل، ثمّ خَصّص الأبواب الخمسين الأخيرة لفنون الشّعر الأخرى. ولهذا الكتاب مخطوطات متعدّدة، على أنّ اثنتين منها تشتملان على الجزء الأكبر من الكتاب، وهي مخطوطة دار الكتب في القاهرة، ومخطوطة مدينة تورينو الإيطاليّة. وقد أصدر الباحث لويس نيكل هذا الكتاب أوّل مرّة سنة 1932، معتمدًا في تحقيقه على مخطوطة القاهرة، ومستعينًا بالشّاعر الفلسطينيّ إبراهيم طوقان. ثمّ نشر الباحث العراقيّ إبراهيم السّامرّائي طبعةً أخرى سنة 1985 معتمدًا فيها على المخطوطتين. ولكنّ الطّبعتين -على ما فيهما من جهد حقيق بالشّكر والثّناء -قد أَخَلّتا ببعض الكلمات ولم تكونا بنَجْوَة من العثرات والأخطاء، وهو ما دفعني دفعًا إلى السّفر إلى جامعة لايدن في هولندا لأطّلع على صورة من مخطوطة تورينو، فوجدتُ فيها مادّة جديدة، أتاحت لي أن أصحّح ما ورد في الطّبعتين السّابقتين، وأن أكشف عن تصوّر الأصفهانيّ للحبّ والغزل في عصره، وعن نهجه في ترتيب الكتاب. أمّا الدّراسة الثّانية، فهي دراسة أتناول فيها كتاب «أشعار النّساء» للأديب البغداديّ محمّد بن عمران المَرْزُبَانيّ (توفّي سنة 994). لم يتبق من هذا الكتاب إلّا مخطوطة واحدة محفوظة في القاهرة، وقد حُقّقتْ ونُشرت قبل عقود، على أنّ الطّبعة تحتاج إلى كثير من التّصحيح. ولعلّ أهمّ ما نلاحظه في هذا الكتاب أنّ الشّاعرة العربيّة كانت تمتاز بفصاحة اللّسان وبلاغة المعاني، ولكنّ الأمر الأجلّ في هذا كلّه أنّها استطاعت أن تصوّر ما يَنزلُ بها من الخطوب والشّدائد، وأن تكشف عمّا يداخلها من الشّعور والعواطف، وهو أمرٌ يستحقّ الدّرس والتّقصّي لمعرفة حال المرأة في ذلك العهد. وبعد، فقد وقفتُ عند هذا الإرث التّليد والذّخر المجيد من أدبنا العربيّ وبيّنتُ ما فيه من كنوز دفينة. وإنّي لأدعو المدارس العربيّة إلى تخصيص درس للمخطوطات، يقف الطّلبة فيه عند كتاب قصصيّ من الكتب القديمة، ليطّلعوا على مخطوطته، ويتأمّلوا الكتاب والخطّ والتّرتيب، ويوازنوا بين المخطوط والمطبوع من الكتاب، فهو ممّا يستميلهم ويسترعي انتباههم ويمتّن صلة أبنائنا بلغتنا العربيّة السّاحرة. وقد قال الشّاعر: لَوْلَا الجذور المطمئنة فِي الثرى / مَا كَانَتِ الأغصان تَرْفَعُ هَامَهَا. { أكاديمي مختص في الأدب العربي
مشاركة :