هل ترتكز الثقافة العربية على مقومات فكرية وقيم يجعلانها تمضي في بناء مشروع حضاري، يستند إلى أسس الحرية والعدالة والمساواة للإنسان العربي، أسوة بتلك الشعوب الحرة التي اكتسبت ثقافة حقيقية مؤثرة، بعد أن استطاعت الانتصار على قيودها بفعل انحيازها للقيم الإنسانية؟ الجواب بظني: لا، لم تستطع الثقافة العربية أن ترتقي إلى مستوى هذه المهام، ولذلك غاب النموذج والمثال ولم نسمع عن مثقف عربي أو مفكر تنويري يدعو إلى شعارات الحرية ويناضل من أجل تحرير الإنسان العربي من قيوده؛ بل العكس فإن أغلبية أهل الفكر والثقافة العرب هم ممن يدعمون الأنظمة الاستبدادية العربية ويصفقون لزعمائها، رغم علمهم أن هذه الأنظمة فشلت في صناعة الإنسان على مدى عقود طويلة، ونجحت في قهره ومسخه وإبادته نجاحاً باهراً. ونتيجة للتحولات الكبيرة في نمط المعيشة للمواطن العربي، فقد أصبحت علاقتنا بالمعرفة علاقة لا قراءة ولا أهمية لكل أوجه الثقافة المختلفة؛ الفكرية منها والروحية، وبات الشباب العربي يتحصل على المعرفة من الموبايل والفيديو كليب، وهو تفاعل لا ينتج عنه إلا مزيد من التشويه الفكري والاجتماعي لهم، وهو إضافة إلى ذلك تواصل أظهر كل عيوبنا الأخلاقية والاجتماعية وعقليتنا القبلية، وعكَس نمط تفكير الإنسان العربي. في سعينا لإلقاء بعض الضوء لفهم أسباب هذا الانحطاط، لا شك في أننا نبحث أيضاً عن التغيير وإزالة هذا الواقع، بيد أن أية جهود بِنيّة التغيير دون وعي وإدراك لحجم وعمق هذه الإشكالية لن تثمر. فما الذي يجعل الثقافة بمكوناتها المتعددة منحطة؟ وما الذي يدفع بأنماط المعيشة وبالحقوق الأساسية للبشر ومنظومة القيم إلى الانحدار؟ دعونا نتأمل فيما هو أوسع وأشمل، فإن فعَلنا فإننا سوف نلحظ على مساحة شاسعة أسباب ومبررات هذا الانحدار، ونظن أن بعض هذه الأسباب هي أسباب مَرَضية تحتاج إلى معالجة، وبعضها الآخر نعتبره من الأمراض التي تصيب أية حالة نمو، ومن ثم فهي أمراض ضرورية كي نصل في الحالة الثقافية إلى الصحة والعافية. لغاية الربع الأول من القرن العشرين، كان التعليم في العالم العربي ينحصر على أبناء الذوات، ولم يكن في مقدور أبناء عامة الشعب ارتياد المدارس والجامعات، وكان يقول أبناء الصفوة الذين احتكروا التعلم إن الماء في النهر إذا تُرك يتدفق من غير ضوابط فإنه سوف يُغرق ما حوله من الأراضي، لذلك فإن فائدة الماء تكون في ضبط النهر. وفي المقابل، تعالت أصوات عدد من المفكرين المتنورين تدعو إلى إشاعة التعليم وتعميمه على الجميع، وأن العبرة تكون في اتساع قاعدة التعليم، التي سوف توفر حاضناً حقيقياً للإبداع. وبذلك احتدمت رحى معركةٍ نظريةٍ بين المفكرين، استمرت ردحاً من الزمن إلى أن جاء وقت أصبح فيه التعليم متاحاً لأبناء المجتمع كافة، وفيما بعد تحولت القضية إلى نقاش حول معالجة وإصلاح عيوب التعلم ومنظومة التعليم، وهي -لا شك- عيوب ومشكلات تعكس قصوراً في إتمام رسالة التعليم، وليس في الرسالة ذاتها. إنّ تطور وانتشار وسائل الإعلام التي تقاطعت مع اتساع التعليم -لا شك- نتج عنها ارتفاع نسبي في مستوى الوعي الاجتماعي -نسبياً- لدى غالبية الناس، ومن ثم أحدث هذا الأمر ارتفاعاً في مستوى المعيشة بمعظم البلدان العربية، فحصل تفاعل عميق ومثير، من خلال إقبال الناس على شراء الكتب وقراءة الصحف وارتياد دور السينما، ومتابعة الأعمال التليفزيونية، محكومة باعتبارين: الأول: أن الجمهور الأكبر من المتلقين أصبح من الناس شبه المتعلمين، وبطبيعة الحال فإن وسائل الإعلام تفضّل هذه الشريحة ذات الأغلبية العددية على أن يكون جمهورها ومتابعوها قلة من المثقفين والمتعلمين؛ وذلك بسبب عقلية التاجر التي تحكم أصحاب هذه المنابر الثقافية الذين هم أصلاً في غالبيتهم العظمى أناس يديرون أعمالاً وليسوا أصحاب مشروع ثقافي، ومن ثم كان من نتيجة هذا الوضع أن انتشر الإنتاج الثقافي والفني والأدبي الهابط الذي يخلو من أية قيمة فكرية. العامل الثاني الذي حكم مصادر التثقيف: هو أن تعدد واتساع وازدياد وسائل الإعلام بفروعها كافة، حوّلها إلى شيء يشبه ماكينة تبتلع كل ما يُرمى لها، ماكينة لا تتعب ولا تشعر بالشبع وتطلب المزيد دوماً . فلنلاحظ ما حصل: الصحيفة في البلد الواحد أصبحت مجموعة صحف، والقناة التليفزيونية أصبحت آلاف القنوات، ووسائل الإعلام نَهِمة وتحتاج إلى طعام بشكل متزايد، تحتاج إلى إنتاج فني وثقافي، فأخذت تتلقف كل ما يصل إلى يديها من أعمال. ولأنها مؤسسات تتعامل بعقلية التاجر، فكان عليها أن تقبل بالثمار المتعطّنة إلى جانب الثمار الناضجة؛ وذلك بسبب أن سوق الطلب أكبر كثيراً من العرض. هذا الأمر ساهم في وصولنا -إلى جانب أسباب مهمة أخرى- إلى حالة الانحطاط الثقافي، ولكن في ظني أن هذا العامل وتأثيره في هذه الحدود التي ذكرناها يكون علة من العلل التي ترافق النمو، فماذا حصل؟ إن الأسئلة الفلسفية والفكرية الكبرى والهامة قد تحولت من كونها متعة للحراك العقلي والمعرفي وتنشيط للذهن، إلى التسطيح البليد في تفسير الظواهر، وكذلك تحولت الفنون المختلفة من النشاط والفعل الروحي والوجداني العميق، من شيء له بهجة التصوف، إلى سلعة تتحكم فيها قواعد السوق والاستهلاك، وأصبح المطلوب سلعاً خفيفة تخاطب الحواس لا الفكر، ولا تترك أي أثر بعد استخدامها؛ حتى تتيح مجالاً لسلع أخرى تنتظر أن يتم استخدامها. وحتى تكتمل الصورة -بظني- علينا أن نستعرض بعض الأمراض الثقافية والظواهر التي قد تستفحل، وقد تصبح مزمنة -هذا إن لم تصبح بعد- من أجل توحيد الجهود لمعالجتها. أولاً: المباشرة وفوراً في تحسين وإصلاح العملية التعليمية بالوطن العربي، بشكل يلحظ تبديل فلسفة التعليم من مجرد عملية تلقين وحفظ واستظهار المعلومات غيباً من غير فهم، إلى عملية تكوين وبناء شاملة للطلاب وتنمية وتحريض مقدراتهم وإمكاناتهم، فقد أدت المناهج العقيمة إلى القضاء على التفكير الذاتي وعلى قتل الإبداع. ثانياً: زيادة الإنفاق على مراكز البحث العلمي، في الدول العربية التي قامت بإنشاء هذه المراكز وبقيت كأماكن وظيفية يلتقي فيها أصحاب الشهادات العلمية العليا، حين لا تجد الدولة مكاناً شاغراً لهم -ياللسخرية! والعمل على تفعيل هذه المراكز وتنشيطها؛ لتكون رافعة التطور المستقبلي، والمباشرة في إحداث مراكز بحث في الدول التي لم تفعل ذلك بعد. ثالثاً: البدء بالاهتمام بقطاع الترجمة، فالأبحاث الدولية تُظهر ضعفاً ووهناً وعدم كفاءة في السعي إلى المعرفة واكتشافها في العالم العربي، وهنا تظهر قلة الترجمة كمؤشر على ذلك، فبينما يتم ترجمة عشرات آلاف الكتب سنوياً في الغرب، لا يتم في العالم العربي سوى ترجمة 3000 كتاب! ولم يعد خافياً أهمية الترجمة؛ لكونها إحدى أهم أدوات التبادل الثقافي والمعرفي، فالعرب قديماً كانوا أصحاب رؤى عميقة حول أهمية الترجمة، لذلك نلاحظ أن أهم مراحل الحضارة العربية، هي المراحل التي ارتبطت بالاهتمام بالترجمة واعتبارها جزءاً من النظرة السياسية والعلمية والاستراتيجية الشاملة للدولة. رابعاً: التخلص من ظاهرة تعليب التجارب وتسطيحها، فكثير من المثقفين العرب والمفكرين يميلون إلى نزعة تبسيط التجارب العلمية والثقافية والحضارية والمعرفية لنا ولغيرنا من الشعوب، ويقدمون لنا أنماط الحياة في قوالب جاهزة معدة مسبقاً، فنظرتهم إلى التراث مثلاً توحي بأن تراثنا العربي بمكوناته كافة عبارة عن مجموعة من الصناديق والكتب والرموز والقادة، وكل ما نحتاجه في الحقيقة أن نقوم فقط بكشف الغطاء عن هذه الصناديق واجتراع الحلول، وكأننا لا نهتم بالعنصر الزمني الذي يؤكد معنى النمو والتطور ولا يلغيه! خامساً: تنتشر في الساحة الثقافية العربية نظرية الأحادية، وهي ليست نظرية جديدة، لكن مفاعيلها السلبية بدأت بالتبلور والتأثير على قطاعات واسعة من المثقفين خلال الثلاثة عقود الأخيرة، وهي نظرية لا تؤمن بالكلية في نظرتها التاريخية للأحداث، وتقر بدلاً عن هذا بفلسفة التخصيص والتجزيء، ولا ترى الأحداث في سياقها التاريخي على أنها تراكمات بينها ترابط عضوي ويحكمها قانون واحد لا يتجزأ، وهو التاريخ العام للبشرية. سادساً: ظاهرة عدم وضوح الأهداف في الحركة الثقافية العربية رغم ما يبدو ظاهرياً عكس هذا الاستخلاص، فإن الثقافة وحركة الفكر الإنساني، بشكل عام، تكون قادرة على النمو والتطور بمقدار اقترابها وملامستها لأهداف واضحة ومحددة، فالتكوين الثقافي لأي مجتمع لا بد من أن يضع نصب عينيه معالجة مشاكل المجتمع. فمن المهم جداً أن تشعر شرائح المجتمع كافة بأن الحركة الثقافية تخدم مصالحها وتقترب من همومها. وبذلك ينخرط الناس في عملية تغيير الواقع بهدف تطوير وتحديث المجتمع، وهكذا تتم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى لأسباب تنبع من قناعة الناس والمجتمع وحاجاتهم المادية والمعنوية ولا تُفرض قسراً عليهم. سابعاً: عدم ممارسة النقد والنقد الذاتي؛ وذلك لأننا شعوب انفعالية وعاطفية بالفطرة والتربية والسلوك، ولدينا نزوع نحو التفسير الغيبي للظواهر. إن مهمة النقد الفكري والثقافي هي إعادة تنشيط حيوية الفكر وتصويبه وتطهيره من الأخطاء والانحرافات والخروقات وأشكال الفساد كافة والتعطُّن الفكري، وإعادة بناء وصياغة الثقافة بما ينسجم مع واقع الحياة. ومن دون عملية النقد والمراجعة، فإن الفكر والثقافة يتحولان إلى فعل رتيب وممل ثم يصيبهما الجمود والتحجر ثم الانهيار. ثامناً: التخلص من التبعية بأشكالها وألوانها وأنواعها كافة وعلى الأصعدة المتداخلة والشائكة كافة، فما التبعية إلا عبارة عن مجموعة من العلاقات السياسية الاقتصادية الفكرية، تشكلت تاريخياً وتدريجياً بهدف محاولة سلخ شعوب المنطقة عن هويتها الحقيقية وانتمائها وعزلها عن تاريخها وعن واقعها أيضاً، ومحاولة هدم حضارة هذه الشعوب من الداخل. تاسعاً: أزمة الحوار، فقد غابت عن المشهد الفكري والثقافي في الوطن العربي ثقافة الحوار، فمعظم المفكرين والمثقفين انقسموا في شلل ومجموعات فكرية عصبوية ضيقة، وتقوقعوا على أنفسهم بدلاً من القيام بدورهم الأساسي في أن يكونوا بالطليعة في نشر ثقافة الحوار. عاشراً: الإبداع، فقد أفلسنا إبداعياً، نلاحظ غياب الإبداع عن مختلف المكونات الثقافية والعلمية، وأصبحنا نعاني النمطية والتقليد والتكرار والنقل، وكذلك غياب الابتكار والتجديد في شتى المجالات. أخيراً: إننا نحتاج بشدة إلى عملية إنعاش ثقافية شاملة تعيد إحياء الخصوصية الثقافية العربية، بما يضمن التخلص من حالة الانحطاط والردة في المشهد الثقافي، وبما يلحظ سؤال المستقبل الذي يؤشر على حيوية ثقافتنا وقابليتها للتطور وقدرتها على الإبداع الذاتي والاستنباط المعرفي لمواجهة جملة المشكلات التي تواجهها، وتضع حداً لحالة التراجع الفكري والعلمي لإعادة استنهاض مقدرات الأمة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :