في ظل مساحة البحار والمحيطات التي تغطي أكثر من 70% من المساحة الكلية لسطح الكرة الأرضية فإنه من الطبيعي أن تكون مثار اهتمام الدول بالنظر إلى أهميتها في التجارة الدولية، بل إنها كانت مثار اهتمام عديد من الباحثين والمفكرين على مر التاريخ من خلال إسهامات فكرية لم تتناول فقط مفهوم وأهمية الدول البحرية بل أيضاً كيف كانت السيطرة على المفاصل الاستراتيجية في البحار من أهم أسس قوة الدول، وهناك أمثلة عديدة لحروب كانت السيطرة على البحار هي سبب النصر لدول بعينها وقد تم توظيف البحار في حروب عديدة ومنها الحروب الفرنسية – الروسية، والحرب الكورية. وإذا كانت السيطرة على البحار عموما تعد ضمن أسس قوة الدول فإن الممرات البحرية الاستراتيجية هي جوهر تلك القوة، بالنظر إلى أهميتها المتزايدة في التجارة الدولية إذ يوجد في العالم ثمانية ممرات بحرية استراتيجية وهي، قناة السويس، مضيق هرمز، مالاقا، باب المندب، البسفور، الدردنيل، قناة بنما، مضيق جبل طارق. ودون الخوض في تفاصيل جغرافية مواقع تلك الممرات فإنه ثمة ملاحظات ثلاث بشأنها، الأولى: الاعتمادية المتبادلة فيما بينها حيث إن تعطل العمل في إحداها يكون له صدى على ممرات أخرى ومن ذلك على سبيل الموقع الاستراتيجي لقناة السويس المصرية وتأثير تعطل الملاحة بها إثر حادث جنوح إحدى السفن البنمية الضخمة في مارس 2021م والتي نجحت السلطات المصرية في تعويمها مجدداً، وكان لذلك الحادث تأثير في 12% من حجم التجارة العالمية التي تمر من القناة، والثانية: أن الممرات المائية الدولية سواء أكانت طبيعية أم اصطناعية فهي ليست ذات اتساع كبير وبعضها ليس به عمق كبير مما يجعل بعضها مزدحماً على الدوام ويطلق عليها «نقاط الاختناق البحري»، وربما يجعلها ذلك أهدافاً للجماعات الإرهابية، والثالثة: أن تلك الممرات تعبر من خلالها أكثر من 60% من احتياجات دول العالم من النفط والذي لا يزال السلعة الاستراتيجية وعصب اقتصادات الدول الغربية ودول العالم أجمع. ولست هنا بصدد إعادة تأكيد زيادة اعتماد دول العالم كافة على الممرات البحرية في تجارتها الدولية بشكل مضاعف خلال العقود القليلة الماضية ولكن في الوقت ذاته هناك تحديات تواجه التجارة العالمية عبر تلك الممرات، منها التهديدات الأمنية، حيث أصبحت وجهة لعمل الجماعات الإرهابية بالنظر إلى سهولة استهداف الناقلات بتكلفة زهيدة للغاية والأمثلة على ذلك عديدة للغاية، من ناحية ثانية بالرغم من جهود المجتمع الدولي لإيجاد إطار قانوني دولي ينظم حقوق وواجبات الدول في المجال البحري عموماً والدول المشاطئة لتلك الممرات على نحو خاص تمثل في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 فإن العبرة ليست في وجود القوانين الدولية ولكن في مدى التزام الدول بها فبعض الدول لديها نزاعات حدودية تمثل المضائق جزءا منها وبالتالي يثار الجدل حول مساحة المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة. ومع أهمية ما سبق فإنه بات واضحاً أن الممرات المائية الحيوية أضحت جوهر استراتيجيات الدول الكبرى وخططها لحماية مصالحها وتعزيز نفوذها وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمثلة الأول: طريق الحرير البحري ضمن مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين والذي يمتد من الساحل الصيني عبر سنغافورة والهند باتجاه البحر المتوسط، والثاني: الممر الاقتصادي للربط بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط والذي تم إعلانه على هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في سبتمبر 2023، والثالث: إن كل استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى لم تخل من الإشارة إلى مسألة الأمن البحري ليس فقط في السياق الإقليمي وإنما ضمن المناطق البعيدة التي من شأنها التأثير في الأمن البحري لتلك الدول ومن ذلك الاستراتيجية البريطانية للأمن البحري عام 2022 والعقيدة البحرية الروسية الصادرة في العام ذاته وتضمنت للمرة الأولى وجود نقاط ضمان لوجستية – فنية في البحر الأحمر. وتكمن الإشكالية الكبرى أن بعضاً من تلك الممرات يقع بالقرب من مناطق توترات بما ينعكس بشكل مباشر على أمن الملاحة فيها بل إن تأسيس تحالفات عسكرية بالقرب من هذه الممرات أصبح مؤشراً واضحاً على احتدام ذلك الصراع بين القوى الكبرى دون وجود اتفاقيات ملزمة لمنع تطور ذلك الصراع نحو مواجهات عسكرية، ومن ذلك على سبيل المثال التحالفات والتحالفات المضادة في منطقة بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من أن حالات إغلاق بعض المضائق الدولية عبر التاريخ محدودة ولكنها ورقة يتم توظيفها خلال احتدام الصراعات وخاصة من جانب الدول التي تشرف على تلك المضائق، ومع ذلك ثمة عوامل تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أن هناك توافقا بين دول العالم على إبقاء تلك الممرات مفتوحة دون معوقات بالنظر إلى ثلاثة عوامل مترابطة أولها: زيادة الاعتماد المتبادل بين اقتصادات العالم وطول مسافات النقل التي تعد مكلفة للغاية من خلال وسائل النقل الأخرى مقارنة برخص تكاليف النقل البحري، وثانيها: وجود قوات للدول الكبرى وحلف شمال الأطلسي «الناتو» بالقرب من تلك الممرات بما يعني أنها تمثل أداة ردع سواء للدول أو الجماعات دون الدول التي تسعى إلى توظيف تلك الممرات في صراعاتها الإقليمية والدولية بما يعنيه ذلك من أن الدول الكبرى لن تتساهل مع حالات إغلاق المضائق الحيوية أو تعطيل الملاحة فيها، وثالثها: إذا كانت تلك المضائق لا تزال حيوية للتجارة العالمية فإن جوهرها هو أمن الطاقة الذي كان سبباً في تشكيل تحالفات عسكرية وكذلك خوض حروب في مناطق مختلفة من العالم. وفي تصوري إن هناك اهتماما غير مسبوق من جانب دول العالم كافة بشأن تأمين الممرات البحرية العالمية سواء تلك التي تشرف على تلك الممرات بشكل مباشر أو من خلال تحالفات لهذا الغرض، بالإضافة إلى المناورات التي يكون هدفها المعلن هو حماية الملاحة البحرية، ولا شك أن ذلك يمثل أداة ردع إلا أن التساؤل الأهم هو ما مدى التقاء أو تقاطع تلك الاهتمامات الدولية مع المصالح الوطنية للدول الكبرى تجاه أمن الممرات البحرية وخاصة تلك التي تقع في مناطق تماس استراتيجي بين مصالح الدول الكبرى وتستدعي تأسيس شراكات وتحالفات بقدر ما تكون مهمة للحفاظ على أمن تلك الممرات ولكنها في الوقت ذاته ربما تكون مقدمة لصراعات ومواجهات مسلحة لن تكون تلك الممرات بعيدة عنها بما يضع العالم أمام سيناريوهات بالغة التعقيد، ولكن في تقديري أنه لا يمكن الجزم بأحكام تسري على كل الممرات إذ تظل كل منطقة مرتبطة بشكل وثيق بأهميتها الاستراتيجية من ناحية وتوازن القوى فيها من ناحية ثانية. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
مشاركة :