يملك المفكرون الغربيون رؤى مختلفة حول الحضارة الإسلامية، بعضها مجحف أو موجه، وبعضها الآخر دقيق في رصد ما للمسلمين وما عليهم، في مرونة وجرأة قد يفتقدهما الكثير من المفكرين العرب في مقاربة تاريخ الحضارة العربية وحاضرها وأخطائها، وصولا إلى التأسيس لفكر نير ضد التعصب الذي ما انفك ينتشر. المعارك التي تتوقف عليها مصائر الشعوب لا تقتصر على ساحات الوغى، وليس التفوق العسكري عاملا وحيدا لكسب الجولات في معترك التسابق العالمي، بل يبدأ المشروع الحضاري بالخروج من حالة القصور العقلي والتجرؤ على مساءلة المسلمات والوثوقيات وسحب الأضواء نحو المناطق اللامفكر فيها، وهذا أمر جوهري في برنامج التنوير. ومن المعلوم أن العالم العربي والإسلامي أخذت التحديات الحضارية والكولونيالية بتلابيبه منذ حملة الغرب على الشرق وتوغل مظاهر الحداثة المتمثلة في العقلانية والمنطق العلمي والقطيعة المعرفية في البيئات الغارقة والمكبلة بالثقافة التقليدية. وكانت مهمة التوافق بين الحداثة الوافدة والأصالة اختبارا أصعب منذ ذاك الوقت وإلى الآن وما برح هذا التحدي حاضرا على أرضية المشاريع النهضوية في مجتمعات مهجوسة بضمور الهوية التاريخية. اختلفت الآليات المرشحة لترتيب الأوراق الفكرية والثقافية بين الاندماج مع معطيات الحضارة الجديدة أو الارتداد نحو التراث، كما برزت أصوات تؤكد أن مواكبة العصر لا تعني دفن التاريخ ولا التنكر للجذور، إذن تشققت الجدران ولم يعد التجاهل للأمواج المحملة بالرؤى والاجتهادات العلمية المتصادمة مع العقائد ممكنا. ما ضاعف الشعور بضرورة التحرك والخروج من موقع المراقب هو ما نشره المستشرقون، وهم الوجه الثقافي للحملة الاستعمارية عن طبيعة الكيانات الإسلامية التي تعاقبت على مسرح التاريخ. وبالطبع إن كل ما نهضت عليه الحركة الحضارية في المنطقة من الدين والأعراف والحياة الاجتماعية والفكرية والصراعات السياسية كان على مرمى الدراسات الاستشراقية وتحت مجهرها. وما إن انفرد القطب الأوحد بتحديد قواعد اللعبة العالمية حتى انصرفت الأنظار نحو العدو الجديد وهو العالم الإسلامي الذي يكون طرفا في صدام الحضارات حسب نظرية صموئيل هنغتون. والقرينة الواقعية للمفهوم الهنغتوني تأتي مع بداية الألفية الثالثة من الهجمات التي تستهدف أميركا. الأمر الذي تترتب عليه تعبئة لقراءة مكونات الفكر الإسلامي والمفردات المؤسسة للعقيدة الجهادية. العقلانية المتعثرة الفرق كبير بين المرحلة الكلاسيكية الذهبية من تاريخ الإسلام والمرحلة الحالية إذ كانت التفكير الإبداعي أكبر بكثير ◙ الفرق كبير بين المرحلة الكلاسيكية الذهبية من تاريخ الإسلام والمرحلة الحالية إذ كانت التفكير الإبداعي أكبر بكثير صحيح أن الحدث قد مضى عليه أنيف من عقدين ولكنه إلى الآن مثار للجدل وسط الثقافة الغربية ويستدل على قولنا هذا ما رصده الباحث السوري هاشم صالح في إصداره الموسوم بـ”الإسلام في مرآة المثقفين الفرنسيين” من آراء نخبة فاعلة في ملعب الفكر الفرنسي عن روافد العقيدة الإسلامية. ويفهم القارئ من حيثيات الكتاب بأن التوترات الأمنية التي شهدها المجتمع الفرنسي في أواخر عام 2015 زادت من اهتمام الشريحة المثقفة بالأصول العقائدية في الإسلام. قبل أن يقدم رؤية أسماء فكرية بارزة حول الإسلام والتيارات المنتسبة إليه، يتناول صالح في مدخل الكتاب جملة من الإشكاليات والهموم الضاربة بجذورها في التشكيلة العقائدية المناوئة للعقلية الفلسفية، الأمر الذي يستدعي التفكير بنفس نيشتوي حسب رأي المؤلف لأن واقع المجتمعات الإسلامية لا يختلف عن المرحلة التي سادت فيها محاكم التفتيش في أوروبا إن لم يكن أكثر تعقيدا، إذن غزت أورام التطرف المناخ الثقافي والفكري إلى درجة ما يرشح منه يذكر بقرارات توماس توركمادا. ولا يمكن التعافي من هذا السقم العقلي قبل ما يسميه صاحب “العباقرة وتنوير الشعوب” بالتفجير الفلسفي. ولا يفيد الإلقاء بالمسؤولية على مشجب الآخر للخروج مما يعتبره الكاتب نفقا للظلامية. ويناقش صالح في ذات السياق إمكانية البحث عن الخطاب الإسلامي المعتدل واختلافه عن التيارات المتطرفة غير أن الفرق بين الاثنين لن يكون إلا طفيفا، ومن ثم يشير إلى أن الآيات التي تدعو إلى الاعتراف بالأديان الأخرى لا يتم العمل بها مقابل الانصراف إلى كل ما يؤكد الاستعلاء الديني. ويلتفت الباحث إلى مصطلح ازدراء الأديان، موضحا أن المراد بهذه العبارة هو خلط الأوراق وإحداث اللغط وقطع الطريق على أي محاولة لتجديد الفكر الديني، وتقديم خطاب مغاير عن الخطابات المتشددة. وبذلك ينجح أصحاب التيار الانغلاقي في إقصاء الفهم العقلاني للنصوص الدينية. ويعتقد صالح بأنه لو كان شبح هذه المصطلحات المتوجسة من التفكير ماثلا في أوروبا ما أرخت للانطلاقة الحضارية ولا التنوير العقلي. كذلك فإن كل ما أضافه الفلاسفة المسلمون في العصر الذهبي من الرؤى والقراءات الحيوية قد يدرج في مربع مفهوم ازدراء الأديان إلى جانب ما تحقق مع بدايات عصر النهضة في أوائل القرن الماضي. تتغذى ظاهرة الاستبداد السياسي من الانسداد اللاهوتي حسب تحليل المؤلف. إذن ما يجب أن يكون ضمن الأولويات في هذه المرحلة هو غربلة التراث لأن المفاهيم السائدة لا توافق حركة العصر كما أن النظرة التقليدية إلى موجات الحداثة، واختزالها في البعد التقني، تقطع الطريق على المساعي الرامية إلى النهوض العقلي. فالأزمة برأي صالح مركبة، فمن جهة هناك تغافل عن تحديات تضع المصير الوجودي على المحك، كما تتخبط العقول من جهة أخرى في الركود والاجترار التفسيري. ما يبعدنا عن التنوير ويعمق الفجوة الحضارية بين المجتمعات العربية والعالم الغربي هو غياب المثقف المنشق الذي يخوض في صراع ضار ومضن مع نفسه وتراثه وطائفته وأيديولوجيته، على غرار فولتير، فالأخير كان من الأغلبية الكاثوليكية ثار على أبناء طائفته عندما بدأت حملة الإبادة الجماعية ضد الأقلية البروتستانتية في فرنسا. ويؤكد صالح أنه ليس ضد الدين بل يرفض التأويل الظلامي والجمود الفكري والتراوح في التقليد واجدا في ما قاله أرسطو بأنه ليس ضد الآلهة لكن ضد فكرة الجمهور عن الآلهة مستندا للإبانة عن موقفه. ◙ ما يبعد العرب عن التنوير ويعمق الفجوة الحضارية بين المجتمعات العربية والعالم الغربي هو غياب المثقف المنشق وكل ما يريد قوله هو أن إسلام البغدادي والزرقاوي وبن لادن يختلف عن إسلام المعتزلة وابن رشد. ويقابل صاحب “مدخل إلى التنوير الأوروبي” بين الأصوليين الجدد وأئمتهم أمثال ابن تيمية والغزالي فكلاهما كان عالما ومتمكنا في الفلسفة وعلم الكلام ولولا الدراية الكاملة بفلسفة أرسطو لما استطاع الغزالي أن يقارع الفلاسفة في عقر دراهم، كما أن الشيخ ابن تيمية لم يكن منقطعا عن علوم عصره وهذا ما مكنه من الرد على المنطقيين “نصيحة على أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان” بينما أتباعه اليوم تعوزهم الثقافة الدينية ولا يتفاعلون مع المعطيات الفكرية المعاصرة. وهذا ما يفسر تفاقم ظاهرة التجهيل والإشهار بالتكفير. ويضع هاشم صالح التيارات المتطرفة في سياق التراكمات التاريخية وهي كامنة في تربتنا وتطفو على السطح. ولا يتغافل عن دور الأنظمة السياسية المتهالكة في الارتكاسة الحضارية. والحال هذه فلا ضير، برأي المؤلف، من الاعتراف بالقصور العقلي في قراءة التراث في ضوء مناهج معرفية حديثة وبالتالي يمكن التعويل على ما يقوله المثقفون الغربيون بشأن العقدة التراثية وآليات تفكيكها. مصائر العالم أصبحت متشابكة، لا توجد أزمة محلية دون أن تكون لها تبعات على سائر المجتمعات وإن بدرجات متفاوتة، لذلك فمن الطبيعي أن تكون للمفكرين من جغرافيات أخرى مداخلات حول أمراضنا الحضارية، ولا يصح أن يعتبر ذلك غزوا فكريا أو امتدادا لحملة كولونيالية. يقر صالح بوجود آراء شعبوية عن العالم الإسلامي في الغرب، واستهتار بالرموز الدينية، لكن مقابل ذلك ثمة مفكرون قد تحظى رؤيتهم بالمصداقية، ومن الشخصيات التي تقع على آرائهم في الكتاب باسكال بروكنير ومشيل أونفري وريمي براغ وأندريه كونت سبونفيل وشفيق كيشافجي، وعلى الرغم من التباين في الخلفية الفكرية بين هؤلاء المفكرين، بعضهم محسوبون على اليسار الإلحادي ومنهم منْ هو أقرب إلى المسلك اللاهوتي، لكنهم لا يختلفون في الرأي على أن التطرف متجذر في الثقافة الإسلامية ويقترحون تعليق العمل ببعض الأحكام والآيات. البعد العالمي الكاتب يتوقف عند الملمح الروحاني لمقاربة المفكر التونسي عبدالوهاب المؤدب لمفهوم الدين واستعادته لمشاهير التصوف وعلى رأسهم حسن البصري ◙ الكاتب يتوقف عند الملمح الروحاني لمقاربة المفكر التونسي عبدالوهاب المؤدب لمفهوم الدين واستعادته لمشاهير التصوف وعلى رأسهم حسن البصري أكثر من ذلك يعتقد سبونفيل بأنه إذا كان المقصود بالإسلاموفوبيا الخوف والرهاب من الإسلام فهذا أمر مشروع نظرا إلى حالات العنف التي تكررت في المدن الأوروبية. ومن بين هذه الأصوات لا يغيب دومنيك أورفوا الذي يقول بأن هناك فرقا أساسيا بين المرحلة الكلاسكية الذهبية من تاريخ الإسلام والمرحلة الحالية إذ كانت الإبداعية الفكرية أكبر بكثير مما عليه اليوم. كما أن المفكرين المعاصرين أقل جرأة من أسلافهم. لعل الأغرب هو ما يذهب إليه سيلفان غوغنهايم حيث ينكر صاحب “أرسطو في جبل السان مشيل: الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية” دور العرب في معرفة الغرب بالفكر اليوناني، فبرأيه لم يكن العالم الإسلامي حلقة الوصل بين المرحلتين التاريخيتين لأن التراث الإغريقي انتقل إلى أوروبا مباشرة عن طريق بيزنطة. وبالتأكيد لا يفكر الجميع على غرار سيلفان، إذ يرد عليه آلان دوليبيرا لافتا إلى أن الفلسفة كانت مطية للاهوت في العصور الوسطى وشاعت في البيئة الأوروبية مقولات تفيد بأن الإيمان لا معنى له إذا كان بحاجة إلى إمكانيات العقل البشري للبرهنة عليه. فيما بادر ابن رشد إلى البرهنة على عدم التعارض بين العقل والنقل. وأكثر ما يشد الانتباه في تضاعيف الكتاب هو المفصل الخاص بالسجال بين أرنست رينان وجمال الدين الأفغاني، فبرأي رينان أن التربة الفكرية في العالم الإسلامي غير مؤاتية لاستمرارية الحركة الفلسفية، وما يسمى بالعصر الذهبي لم يكن إلا فترة قصيرة وانقلب عليها العقل الفقهي. ويستنكر جمال الدين النبرة العنصرية في كلام غريمه أرنست رينان، موضحا أن العرب قد أعادوا الحياة إلى الأفكار المهجورة وأضافوا إلى ما أخذوه من الأمم الأخرى. والملاحظ في ردود الأفغاني هو مرونته في التفكير وتفهمه المنطقي للتحديات الحضارية. ◙ السؤال الملح في هذا التوقيت هو ما طرحه أركون: لماذا استقبلت أوروبا المسيحية فكر ابن رشد بكل حفاوة واستفادت منه في حين أن المسلمين حرقوا كتبه وأهملوه يتوقف الكاتب أيضا عند الملمح الروحاني لمقاربة المفكر التونسي عبدالوهاب المؤدب لمفهوم الدين واستعادته لمشاهير التصوف وعلى رأسهم حسن البصري الذي كان يتخذ السيد المسيح نموذجا وقدوة على الزهد بالحياة الدنيا ومتعها، وأتباعه يستشهدون بالتوراة والزبور والإنجيل ولم يفرقوا بين الكتب السماوية لأنهم كانوا على بصيرة بالنصوص القرآنية. أخيرا فإن المتابع لفصول هذا الكتاب لا يسعه إلا أن يتساءل هل يستمد الغرب قوته وإمكانية التفوق من المعرفة العميقة بتراثنا؟ يبدو أن ما نعرفه عن أنفسنا لا يعتد به قياسا ببحوثهم الاستقصائية لطبقات تاريخنا. لا يفوت القارئ الإدراك للمنحى التمييزي في معالجة الباحثين الغرب للفكر الإسلامي الحافل بالجدل والحيوية، لكن هذا ما انتهجه الغرب حتى مع الثقافة الروسية عندما علت الأصوات بإتلاف التحف الأدبية لتولستوي وديوستفسكي. هنا من الضروري الإشارة إلى أن ما يتقاطع فيه المثقف التنويري مع الفقيه الأصولي هو النسق العقلي، كما أن الأخير يترقب المنقذ ليعيد المجد إلى الأمة كذلك فإن الأول ينتظر فولتير الذي قد يظهر من بطون الغيب، كما يعاني الاثنان من العقدة الحضارية مع غياب الصيغة المتوازنة للتعاطي مع الواقع الراهن. والسؤال الملح في هذا التوقيت هو ما طرحه أركون لماذا استقبلت أوروبا المسيحية فكر ابن رشد بكل حفاوة واستفادت منه في حين أن المسلمين حرقوا كتبه وأهملوه؟
مشاركة :