هناك الكثير من المقارنات بين جنيف2 وجنيف3. فبعضهم يرى أن امكانـــات تحقيق اختراق في جنيف2 كانت أقوى، بينما يرى آخرون أن الآفاق مسدودة أمام جنيف3 مثلما كانت في جنيف2، وذلك نتيجة عدم وجود إرادة دولية جادة تركّز على معالجة الأزمة لا ادارتها. إلا أن اللافت بالنسبة إلى جنيف3 هو التناغم الأميركي- الروسي الذي يوحي بوجود توافق يتجاوز التنسيق الميداني العملياتي. وقد تضمّن بيان فيينا في 30 تشرين الأول (اكتوبر) 2015 الملامح الأولية لهذا التوافق الذي تجسّد لاحقاً في القرار الدولي 2254 الصادر عن مجلس الأمن في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2015. والمنتظر من مفاوضات جنيف الحالية محدود متواضع إذا اعتمدنا تصريحات مسؤولي النظام، لكن أنظارالجميع مع ذلك، متوجهة نحوها. فعلى المستوى الوطني يتطلع السوريون جميعاً في كل المناطق بصرف النظر عمن يديرها، ومن كل المكونات، إلى حلٍ واقعي يضع حداً لماساتهم ومعاناتهم. أما عن طبيعة الحل، وحدوده، وآلياته، فكل ذلك مما تختلف الأمور حوله وتتباين. ولا نذيع سراً إذا قلنا إن حالة الهدنة، على رغم الاختراقات الكبرى من جانب النظام، جدّدت أمل السوريين، بخاصة لناحية إمكانية استعادة وجه ثورتهم المشرق وروحيتها. وإقليمياً، باتت مختلف الأطراف مقتنعة أكثر من اي وقت مضى بأن سورية الدولة المفتاحية في المنطقة، وهذا فحواه أن استقرارها هو استقرار المنطقة، والعكس بالعكس. وقد توصل الجميع إلى هذه القناعة بعد اتساع دوائر الهزات المرتدة هنا وهناك، الأمر الذي أشعر الجميع بأن الوضع السوري لم يعد محلياً خاصاً بالسوريين وحدهم. ويمكننا أن نضع التواصل التركي- الإيراني ضمن هذا السياق، في ظل ما يُروّج حول مستقبل سورية ككيان سياسي، والهدف كما هو معلن التنسيق لمواجهة احتمالات القادم المجهول الذي يُستشف من التوافق الأميركي - الروسي. كما أن مناورات «رعد الشمال» التي شهدتها مؤخراً المملكة العربية السعودية تأتي في نطاق الجهود المبذولة لإيجاد مرتكزات إقليمية بالمعنى الأوسع، تخفّف من حدة الصدمات التي تشهدها وستشهدها المنطقة. وهي صدمات تنذر بتحوّلات بنيوية تعيد تشكيل الكيانات، وتدفع بالمعادلات الإقليمية نحو توازن جديد. أما دولياً، فجاء الإنسحاب الروسي المفاجئ بناء على المعطيات الظاهرة ليعطي دفعاً للمفاوضات، ويدفع بالأطراف الراعية لها إلى رفع سقف المنتظر منها. كما ان التركيز الإعلامي اللافت على المفاوضات حشر النظام في زاوية ضيقة، قياساً إلى ما كان عليه وضعه قبل اسابيع. فهو يعلم تماماً أن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن روسيا بعدما اطمأنت الى دورها في سورية، وبناء على رغبتها في تسوية وضعها أوروبياً، ترى أن من مصلحتها الاستمرار في التنسيق مع الموقف الأميركي من موقع الشريك، حتى لو كان الأضعف، في عملية توزيع الأدوار وترتيبها بينهما. كما أن التفاهم المباشر بينها وبين اسرائيل قد حدّ إلى حدٍ كبير من فعالية المحور الإيراني الذي باتت أوراقه مكشوفة في مختلف الميادين، بخاصة بعد قرارات الدول الخليجية، ووزراء داخلية الدول العربية، وجامعة الدول العربية بخصوص الهوية الإرهابية لـ «حزب الله». من جهة أخرى، واضح تماماً أن توجه مئات آلاف اللاجئين السوريين نحو الدول الأوروبية أدى إلى تعزيز مواقع اليمين الأوربي المتطرف، وتقوية الحركات العنصرية المعادية للأجانب، بالتفاعل مع ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تعانيها المجتمعات الأوروبية راهناً بفعل عوامل متراكمة، منها أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، وتفجيرات باريس في 2015، والتجاوزات السلوكية في كولونيا بألمانيا ليلة رأس السنة، هذا إلى جانب الحملة المركّزة على الإرهاب الداعشي من دون إرهاب النظام السوري. فكل هذه العوامل دفعت بالمجتمعات الأوروبية نحو البحث عن حلٍ واقعي مقبول. هكذا باتت المسألة السورية، في ظل مفاعيل العولمة ومعادلاتها، جزءاً من السياسة الداخلية للعديد من الدول الأوروبية. إن جولة جنيف3 التفاوضية ما زالت في بداياتها، وستكون محفوفة بالمصاعب والعراقيل والانسدادات. حلفاء النظام ورعاته سيراهنون كثيراً على تشتيت المعارضة، وزرع بذور الخلافات بين أطرافها المختلفة، تارة تحت شعارات تدعو إلى ضرورة ضم أطراف مرتبطة بالنظام إلى وفد المعارضة، وتارة عبر التواصل مع بعض من أمسك العصا من وسطها منذ البدايات، ويبدي الاستعداد للقبول بأي دور. ولمواجهة كل ذلك، تحتاج المعارضة الوطنية الحقيقية إلى توحيد صفوفها، وتجاوز خلافاتها، وتركيز جهودها على دعم وفدها المفاوض في جنيف ليتمكّن من طرح أوراقه على مائدة المفاوضات بكل قوة وثقة، ويقطع الطريق على أحابيل النظام وحلفائه، ويفضح التزييف العلني الذي يُمارس جهاراً نهاراً. كما ان التواصل مع الأشقاء والأصدقاء ضرورة قصوى لا غنى عنها، وفي الوقت ذاته لا بد من الاستمرار في التواصل مع أعضاء مجموعة اصدقاء الشعب السوري، خصوصاً الولايات المتحدة والأوروبيين، ووضعهم أمام مسؤولياتهم، ومطالبتهم بالالتزام بتعهداتهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية الديبلوماسية الخلفية، إلى جانب الجهد الإعلامي المتميّز وباللغات المتعددة، لاستقطاب التأييد على المستوى الرسمي والشعبي. فمعركة المفاوضات ستكون طويلة وشاقة، والمعارضة تمتلك امكانات هائلة، بخاصة بين أبناء الجاليات في مختلف الدول، لكن ما نحتاج إليه هو تأطير هذه الإمكانات ووضعها في مساراتها الصحيحة لتتم عملية الإستفادة منها كما ينبغي. إن ما يأمله الشعب السوري هو أن تُسفر المفاوضات عن حل مقبول يعادل مستوى التضحيات والتطلعات، ويضمن مستقبلاً أفضل للأجيال المقبلة.
مشاركة :