كان مكرم عبيد باشا هو أول عضو بمجلس النواب المصري يفصل من المجلس، والغالب أن توفيق عكاشة لن يكون آخرهم.. والتشبيه مع الفارق.. والمقامات التاريخية محفوظة! ومكرم عبيد - لمن لا يعرف أو لا يتذكر - إحدى أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ مصر في حقبة ما بين ثورتي 1919 و1952.. إذ كان - حتى فصل من مجلس النواب - الرجل الثاني أو الأول مكرر في حزب الوفد المصري الذي قاد الثورة، بعد زعيم الحزب مصطفى النحاس باشا، وظل يشغل هذه المكانة على امتداد خمسة عشر عاماً متصلة، بدأت عام 1927 باختياره سكرتيراً عاماً للحزب الذي كان يفوز بالأغلبية البرلمانية في كل انتخابات نزيهة، ويحوز ثقة وتأييد المصريين. وعلى امتداد هذه الفترة الطويلة، كانت العلاقة بين زعيم الحزب وسكرتيره العام، نموذجاً فريداً للصداقة الشخصية والسياسية، التي تصمد لكل العواصف، وتتحدى كل الصعاب، لذلك فشلت كل المحاولات التي بذلها خصومهما المشتركون للوقيعة بينهما.. وخلالها سخّر مكرم عبيد كل مواهبه التنظيمية لإدارة الحزب، وكل مواهبه الدعائية لتكريس زعامة مصطفى النحاس وتصفية كل قيادات الصف الثاني في الحزب، التي تمردت عليه، حتى وصل به الأمر يوماً إلى القول بأن الحركة الوطنية قد مرت بأطوار عديدة، تركزت بعدها في زعامة مقدسة، وأن مصطفى النحاس هو الطور الأخير في الحركة الوطنية. ولأن لكل بداية نهاية، فقد جاء الوقت الذي اختلف فيه الرجلان، ونجح خصومهما في الإيقاع بينهما، وأسهم كل منهما في توسيع شقة الخلاف باندفاعه أو عناده، حدث ذلك بعد أسابيع قليلة من تشكيل الحكومة الوفدية في 4 فبراير 1942، التي اضطر الملك فاروق إلى استدعاء النحاس لتشكيلها، بعد أن حاصرت الدبابات البريطانية قصره، وهدده المندوب السامي البريطاني بالعزل عن العرش، إذ لم يشكل حكومة يرأسها رئيس أكبر الأحزاب المصرية، والرجل الذي وقع معاهدة 1936 ويستطيع بحكم زعامته للمصريين، أن يضمن استقرار الأوضاع في مصر ويحمي ظهر القوات البريطانية التي كانت تخوض معارك ضارية ضد العدو الألماني.. ومع أن الحكومة كانت قد تشكلت في هذا الجو العاصف، فقد بدأ التوتر في العلاقة بين الرجلين، أثناء - وبعد - تشكيلها، إذ شعر مكرم بأن هناك مركز قوة جديداً، أصبح يحيط بالنحاس، ويؤثر في قراراته، خلال السنوات التي كان الحزب فيها بعيداً عن الحكم، يتمثل في زوجته السيدة زينب الوكيل وأشقائها والمحيطين بها والساعين للاستفادة من موقعها بقرب الزعيم ومكانتها منه، وتأثيرها عليه، وأنه لم يعد مستشاره الأول أو الوحيد، وأن بعض ما يتخذه من قرارات وما يتبعه من سياسات، أصبح يلقى اعتراضاً وانتقاداً من رئيس الوزراء وزعيم الحزب، وبالفعل وردّ الفعل، اتجه مكرم إلى التشدد فيما يتخذه من قرارات ضد هذه المجموعة.. وفشلت كل المحاولات التي بذلت لإقناعه بأن يخفف من إجراءاته ضدها.. فقرر النحاس أن يقدم استقالة الوزارة وأن يعيد تشكيلها بعد استبعاد مكرم من منصبه العتيد في كل الوزارات الوفدية، وهو موقع وزير المالية ثم باستبعاده - بعد فترة قصيرة - من منصب سكرتير الوفد.. وبذلك فقد كل مواقعه، ولم يعد له من المواقع، سوى عضوية مجلس النواب التي كان قد حصل عليها بالانتخاب. ولأن الأحكام العرفية كانت معلنة بسبب الحرب العالمية الثانية، وكانت الصحف تخضع للرقابة، لم يستطع مكرم عبيد أن يشرح أسباب الخلاف من وجهة نظره للرأي العام، وانتهى به التفكير إلى أن يتقدم بمذكرة إلى الملك فاروق يشرح فيها تلك الأسباب، التي تقوم على فساد الحكم واستغلال النفوذ الذي مارسه النحاس وأقرباؤه ووزراؤه وأقرباؤهم الذين انتهزوا ظروف الحرب للمتاجرة بأقوات الشعب في السوق السوداء، وظل لشهور يكتب هذه العريضة ويجمع معلومات ووثائق عن أوجه هذا الفساد، ليتضخم حجمها وتتحول إلى كتاب في حوالي 300 صفحة من القطع الكبير، وفي اللحظة التى قدم فيها أصلها إلى الديوان الملكي، كان هذا الأصل ينشر في كتاب بعنوان الكتاب الأسود ويوزع على السفارات الأجنبية ورجال السياسة والأحزاب والصحفيين. وأحال الديوان الملكي أصل العريضة إلى الحكومة، لكي تحقق فيما ورد فيها، خاصة أن الذي قدمها هو وزير سابق وسكرتير عام سابق للحزب الحاكم.. ورفضت الحكومة اقتراحاً بأن تحيل هذه الوقائع للنائب العام لكي يحقق فيها، وقالت إن التحقيق سوف يستغرق شهوراً، تظل خلالها الشبهات التي أثارها صاحبها قائمة ضدها، وإن البرلمان هو الجهة المنوط بها مناقشة ما ورد بها من اتهامات، وإن على مكرم عبيد - وهو نائب بمجلس النواب - أن يتقدم باستجواب حول وقائع الفساد التي وردت فيها، وسوف ترد عليها الحكومة.. ورفض مكرم هذا العرض، وقال إن المجلس يتكون من أغلبية وفدية سوف تصوت ضد الاستجواب. وقررت الحكومة أن تقوم بهذا الواجب نيابة عنه، فدفعت عدداً من أعضاء مجلس النواب والشيوخ المنتمين إليها لكي يقدم كل منهم مجموعة من الأسئلة إلى وزرائها، بشأن وقائع الفساد التي نسبها إليهم مكرم عبيد، ليقوم كل منهم بتفنيد الاتهام وتكذيبه، وسط وصلة من الشتائم تتهم مقدم العريضة بالحقد والكذب والافتراء وتصفية الحسابات، ويعلق النائب أو الشيخ الذي قدم السؤال على رد الوزير قائلاً: إنه كان يثق بأن تلك هي الحقيقة، وإنه قدم سؤاله لكي يتيح للوزير فرصة لإذاعتها، ويجدد ثقته بالحكومة ووزراء الشعب ويلعن سنسفيل مكرم عبيد! وبعد تردد طويل وضغوط متصلة، وافق مكرم على التقدم باستجواب حول بعض الوقائع المهمة التي وردت في العريضة، وشرحه في عدة جلسات عقدها مجلس النواب، ورد عليها رئيس الوزراء وعدد من الوزراء، وانتهى الاستجواب كما كان متوقعاً بقرار يجدد الثقة بنزاهة الحكم ويكذب كل ما ورد فيه وفي العريضة من وقائع، ويستنكر المسلك الشائن الذي سلكه صاحبها ويعتبره أسوأ مثل للنائب منذ قامت في البلاد الحياة النيابية، لأنه استسلم للحقد فضلله ولشهوة الانتقام فسيرته، ليعتدي طائشاً على الأبرياء ويلوث عامداً الأمناء، شفاء للغل.. وللحزازات الشخصية على حساب سمعة البلاد ومصلحتها العليا! وبعد ستة أسابيع من ذلك التاريخ وفي 12 يوليو 1943، قدمت هيئة مكتب مجلس النواب اقتراحاً إلى الأعضاء بفصل النائب مكرم عبيد، وقالت إنها كانت تتوقع أن يستخلص من القرار الذي صدر من المجلس أن وجوده فيه قد أصبح غير طبيعي، ولكنه لزم الصمت، ولذلك يقترح فصله لأنه لم يصبح جديرا بشرف النيابة عن الأمة. ووافق المجلس على الاقتراح بأغلبية 208 أصوات ضد 17 صوتاً.. وبعدها بأسابيع صدر أمر من الحاكم العسكري باعتقال مكرم عبيد. وبعد ذلك التاريخ بخمسة عشر شهراً، وفى 8 أكتوبر 1944 صدر أمر ملكي بإقالة حكومة مصطفى النحاس باشا، وكلف أحمد ماهر باشا بتشكيل الحكومة الجديدة، وفي أثناء الاجتماع الذي عقده للتشاور مع زعماء الأحزاب حول هذا التشكيل فوجئ الجميع بـمكرم عبيد باشا يدخل عليهم قادماً من المعتقل، لكي يشترك معهم في مشاورات تشكيل الحكومة البديلة، ليعود أسوأ مثل للنائب في تاريخ الحياة البرلمانية إلى تولي منصب العتيد كوزير للمالية، وليخوض الانتخابات ويسترد مقعده في مجلس النواب! وصدق الذي قال اللي يعيش ياما يشوف!