برنامج «الربيع».. جماليات بصرية مغايرة للمألوف

  • 3/21/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تقدم مؤسسة الشارقة للفنون في برنامجها الفني برنامج الربيع واحدة من التجارب التشكيلية اللافتة في المشهد التشكيلي العالمي، إذ تنظم معرضاً استعادياً للفنانة الراحلة فريدة لاشاي في بيت السركال، لتجمع بذلك نماذج من تجاربها الفنية المتنوعة، والممتدة منذ منتصف الخمسينات حتى بداية الألفية الجديدة. يطرح المعرض التي قيمته الشيخة حور بنت سلطان القاسمي، رئيسة المؤسسة تجربة فنية للراحلة لاشاي بكل محمولها الجمالي والمعرفي، حيث لا تتوقف أعمالها عند عشرات الأعمال المعروضة لها، وإنما يمتد ليقدم المؤلفات التي ترجمتها لاشاي، والكتب التي أصدرتها، ودفاتر اليوميات التي قدمت فيها جانباً من سيرتها الذاتية. يفتح المعرض باباً واسعاً على العوالم التي انطلقت منها الفنانة، ومجمل الانشغالات الذهنية التي طرحتها في أعمالها، فيجمع تجربة الفنانة في تعميق الصورة وجماليات الحدائق والغابات والأشجار، كما يفتح نوافذ واسعة على التجريد اللوني المتعدد القراءات. ليس ذلك وحسب، بل يكشف المعرض التقنيات والمدارس التي خاضتها الفنانة في تجربتها مع اللوحة والمنحوتة، والعمل التركيبي، والفيديو، وغيرها من الفنون والأجناس الإبداعية، ويقدم كذلك لوحات انطباعية للفنانة، وأخرى تجريدية، إضافة إلى منحوتات تعبيرية، وتجريدية، وفيديو، وتجريد صوتي، وأعمال تركيبية تنتمي إلى مدارس الفن الحديث. تتوقف الفنانة في أعمالها عند الشجرة بوصفها تكويناً متحركاً وثابتاً في الآن نفسه، وهي تبدو مشغولة بفكرة الثابت والمتحول في الجماليات الكونية، إذ لا تتوقف الشجرة عن النمو، والتشابك، والتعالي طوال، وهذا يتيح فرصة لها لرصد تحولاتها، والكشف عن العلاقات الشكلية التي تحققها جذوع الأشجار، وأغصانها. وتبحث لاشاي كذلك في العلاقة المتداخلة في فضاء البحث عن الروحاني والجمالي، وما يمكن للطبيعة أن تحققه من تكامل في سياق وجودها وتطورها، فتحرص في رسمها للشجر والطبيعة على رصد التوازن بين الفراغ والكتلة، وبين الحدة واللين في العمل الفني، فتوظف بذلك شفافيات اللون، وانسيابيته على سطح الورق، مقابل حدة الفرشاة، وأثرها اللوني، كاشفة بذلك جماليات متعددة الحضور في تفصيلات مختارة من الشجر، والنباتات. ويتشكل هذا الاشتغال على تعميق جماليات شكل الشجرة بعد تجارب عدة في العمل على المنظر الطبيعي بالاستناد إلى المدرسة الانطباعية، وألوان الزيت على القماش التي تكاد تكون الخامات المفضلة للفنانة طوال تجربتها، حيث ظل الزيت على الورق والقماش يرافق تجربتها لأكثر من ثلاثة عقود، إلى حين خوضها تجربة الجرافيك، والنحت، والأعمال التركيبية. مقابل هذه المساحة من تجربة لاشاي، يظهر جهدها العالي في تشكيل مسارات جديدة في رسم الخيل بما تشتمل عليه من جماليات، إذ تعمل بإحساسات لافتة بالزيت على ورق لرسم الخيل في فضاءات تعبيرية تقترب إلى التجريدية، يتبدى فيها شكل الخيل، بتكوينات جامحة، غاضبة، مشكلة بذلك صوراً جديدة لمفهوم الثورة، والغضب، والانعتاق، والحرية. يتمثل تكوين الخيل في أعمال الفنانة لمفاهيم الانعتاق والحرية بتعبيرية واضحة، تكشفها حركة الخيل داخل العمل، والجموح والنفور الذي تشكله عفوية الريشة على سطح اللوحة، فتتحول الخيول إلى حالة من الثورة العارمة التي تظهر في الشكل، والتكوين، والتعبير، وحتى الأسلوب والتقنيات التي تبني فيها اللوحة. ويكاد تكون تلك المفاهيم تأخذ سياقها في تجربة الفنانة، وتمضي في مسارات من الحذف والإضافة، لتأخذ شكلها في أعمالها التجريدية التي تطرحها على صعيد اللون، فتعمل الفنانة على استعادة تجربتها مع النباتات والشجر، وفي تمثيل ثورة الخيل، لتنتج أعمالاً تجريدية تحاكي مجموعة الشجر مرة، ومجموعة الخيل مرة أخرى، فالشكل اللوني، واتزان العمل على صعيد المساحة والكتلة يعيد المتلقي نحو تلك الأعمال، وتكاد تكون هي ذاتها التي مرت في ذهنية التجريد وخرجت بصيغ لونية وتكوينات جديدة. تبدو الفنانة من خلال هذه التحولات، وأيضا وهي تخوض في مساري النحت، والجرافيك، كأنما تعود لتجربتها الأولى وتحاول قراءة كل ما مرت عليه في سياقات الشكل، واللون، والفكرة، والتعبير داخل العمل الفني، فتأتي منحوتاتها تجريدية بالكامل، وتكاد تكون مقتطعة من لوحاتها الزيتية. يظهر ذلك من خلال الأنساق التي تتعامل فيها مع الكتلة، فلا يكاد يكون الشكل العنصر الرئيسي في المنحوتة، بقدر حرصها على تحقيق التوازن اللوني، والبصري من حيث البناء، والحضور، والانسجام مع ما يقابل الشكل من فراغ. ولا يمكن النظر إلى تجربة لاشاي في النحت بوصفها واحدة من المراحل التي مرت بها الفنانة وحسب، فأعمالها النحتية كشفت الجهد الذي خاضته الفنانة حيث لم يكن من السهل الانتقال من المساحة البيضاء المتمثلة في اللوحة، إلى الكتلة المجسدة في المعدن والزجاج، وغيرها من الخامات، إضافة إلى قدرة العمل النحتي على الكشف عن رؤية الفنانة للشكل، واللون، ومفهوم الجمال كشرط مقابل الفكرة في الفنون المعاصرة. أما الأعمال التي أشرعت فيها الباب كاملاً على المخيال الإنساني، وتصويرها لأكثر القضايا التي شغلتها في مسيرتها الفكرية، والفنية، فتتمثل في الأعمال التركيبية، حيث تقدم في أحد أعمالها وعنوانه حدائق إيران: الحكمة القديمة، والرؤية الجديدة من خلال شكل أسطواني من الأسلاك المعدنية، تعلق داخله قصاصات كل منها يحمل رسماً للشكل الآدمي، وتتحرك تلك القصاصات في الفراغ المضاء وهي معلقة بصورة أفقية. تذهب الفنانة عميقاً في ذلك العمل الذي يتكرر فيه شكل ولون القصاصات المعلقة، فيبدو انشغالها إنسانياً وكونياً بالكامل، وثير تساؤلات حول مفهوم الوجود، وصورة الأنا والآخر، وتعدد الأكوان وفق الهويات، والأثنيات، والثقافات، واضعة البشرية كلها في مصير واحد لا يستطيع الإنسان الانعتاق منه، وفي المقابل لا يتوقف عن الصراع مع كل من يختلف عنه، ويتعارض معه في رؤاه، وذهنيته. يتحول الإنسان في عمل لاشاي إلى فكرة شعرية سابحة في فضاء حر، لا يتقاطع معها سوى الضوء، والهواء الذي يكفل لها الحياة. أخيراً تعود الفنانة إلى علاقتها مع الثابت والمتحول في الكون، سواء أكان موجوداً، أم فكرة، أم مفهوما، أو غيرها مما هو غير محسوس، فتقدم أعمال الفيديو بصيغة المتحرك والساكن، بتقنيات عالية على لوحات غرافيك، ليشرك الثابت (اللوحة) مع المتحرك (الفيديو)، وينتجا عملاً فنياً تكاملياً يروي سيرة الكثير من الحكايات في كل مشهد يظهر في عتمة المكان وعلى سطح اللوحة. تعتبر فريدة لاشاي (1944 -2013) فنانة متعددة المجالات، فإلى جانب تجربتها الفنية كلها، درست الأدب الألماني في جامعة فرانكفورت، واستكملت ممارستها للفن البصري، عبر عملها ككاتبة، ومترجمة، مركزة بشكل أساسي على عمل الكاتب المسرحي الألماني برتولت برخت.

مشاركة :