«الحياة بعين ثالثة».. الفضول طريق المعرفة

  • 3/21/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ربّما لم يذكر أحد من الشعراء عبارة العين الثالثة سوى شاعرين، أوّلهما الشاعر ابن الرومي في إحدى قصائده:والفؤادُ الذكيُّ المُطرق المُعرضُ عينٌ يرى بها من وراءِ، وسواء كانت هذه العين هي للعقل أو للفؤاد إلاّ أنها عينٌ ثالثة ترى أو تستشرف الغامض القادم، أو وفق ما ذهب إليه شربل داغر من أن ابن الرومي أعاد للعين الناظرة فرصتها في أن تكون عيناً رائية للوجود والإنسان، بل عيناً محتفية بما تستحسنه ويروق لها من مناظر وهيئات. وثانيهما جبران خليل جبران الذي تحدّث عن البصيرة والاستشفاف وسمّاها العين الثالثة وإمكانية اتّساع الرؤية نحو أماكن قصيّة و قريبة لا يراها غيره، أو قد يراها هذا الغير ولا يكترث لها، أو أنه لا يستطيع التعبير عنها شعراً، وهي في العموم لها حضور في مصطلح الشاعر الرائي الذي راج كثيراً بعد الرائد الفرنسي رامبو الذي قدّم هذا المقترح لشعراء الحداثة ثمّ مضى مبكّراً، ومنه ولد مصطلح القصيدة الرؤيا بغموضها الدلالي والرغبة في استكناه المقبل. عادل خزام الشاعر الإماراتي الحداثي ذهب بدوره إلى هذه العين في كتابه الحياة بعين ثالثة والذي يمكن وصفه بالنصّ الطويل المتجاوز لحدود الأجناس الأدبية المعروفة، ويذكّر بالرائد جبران خليل جبران في الأجنحة المتكسرة والنبي والبدائع والطرائف، فيستعيد الروح الجبرانية ويسير على خطوها في مزج الشعر بالسرد وتجاوز التصنيفات المعهودة وكأنه بدوره يقول لنا: لكم لغتكم ولي لغتي، وبطبيعة الحال لغة معاصرة تليق بشاعر اختبرنا حساسيته سابقاً فيما وصل إلينا من أعماله، علماً أن هذا الكتاب، وكما قرأنا في الصحافة، ترجم إلى الإنجليزية ونال حظّاً من الشهرة. ينبني نصّ الحياة بعين ثالثة على لحظة سردية تنطلق من وصول السارد صيفاً وهو عطشان إلى قرية مات أهلها عطشاً بسبب الجفاف وعندما حاول أن يسند ظهره إلى صخرة قريبة تدحرجت بعيداً وتدفّق من تحتها نبع من الماء وعندما انحنى لكي يشرب وجد رجلين يقفان قرب رأسه وكأنهما كانا في المكان منذ زمن بعيد: الشاعر والحكيم:رجلان متشابهان في الجوهر ويختلفان في الشكل. قال الحكيم: أنت عطشان للمعنى وهكذا ستظلّ إلى الأبد. قال الشاعر: لن يرويك سوى الجمال. وكما لحظنا فإن المجتزأ يتكاثف حول العطش بمعناه الرمزي الدال على ديمومة حاجة الإنسان إلى المعرفة والجمال كقيمتين أساسيتين توازيان أهمية الماء للعطشان في الصحراء. وهكذا تنطلق رحلة السارد معهما ليتابع القارئ الحدث الذي سيذهب في التصاعد فضلاً عن استطرادات حكمية تعبّر عنها لغة شاعرية تتسم بها كتابة عادل خزام التي كنا قد نوّهنا إليها، وهكذا ستتوالى الفصول في رحلة الثلاثة انطلاقاً من الصحراء حيث يقوم السارد بتقديم الشخصيتين وهما يجتازان عراء الصحراء حتّى يصلوا إلى شجرة استراحوا إلى ظلالها متعبين، وبذلك فإن الجلسة ستفتح المجال لكي تبدي كلّ شخصية شيئاً مما تفكّر فيه، أو ما يسعى الكاتب إلى طرحه، وسيفاجئنا أنه يقدّم الحكيم على الشاعر سواء في عبور الصحراء وهو الذي يستعين بالعصا، أو في تقديمه أوّلاً في الكلام الذي سيأتي حكمياً وشاعرياً في الوقت نفسه: أيتها الصحراء.. تهبُّ الريح لغسل ظهرك كلّ يوم من أثر العابرين الذين دفنوا أسرارهم في بطن الغموض وكتبوا بممحاة الرّبح سيرة الزوال.. وكأننا هنا بالحكيم استعار لغة الشاعر كي يرسل حكمته المختبئة في ثنايا الكلام وفيما يمكّن القارئ الحصيف من متعة القراءة والتأويل، فهل الحكيم والشاعر يتكاملان في النهاية؟ ألم يخلّد الشّعراء تراث الحكمة في أشعارهم؟، ما الفارق بين الشاعر والحكيم إذاً؟، أسئلة لا بدّ منها لموضعة كلّ منهما في نسقه المحدد، ولكن ليس قبل أن نرى كيف عبّر الشاعر عن ليل الصحراء: تومض نجمة الحظّ عند اشتداد الحلكة وقد تشتعل السماء نجوماً حين تبتسم الدنيا لشخص فيرى الكون متّسعاً أبيض من شدّة انتشاء قلبه وامتلاء جوانحه بالحبّ. وبعد المعاينة سنجد الشاعر متمسكاً بالحبّ غاية وبالطبيعة ملهماً يستخلص من روحها الجمال الخلاّق، وهو في الآن ذاته قريب من حيث اللغة مع أطروحة الحكيم المستخلِصة لحكمة الوجود من خلال الطبيعة أيضاً، وهنا مكمن المفارقة اللطيفة في أن الوجود مرتبط بالجمال والجمال مرتبط بالحبّ في توجّه أوّلي التمسناه من حوار الرجلين تحت تلك الشجرة الوحيدة في صحراء مقفرة كرمز خالد للحياة والإحياء. يعرض السارد جانباً من مشكلة الحكيم مع العالم الذاهب في جهله، أو بالأحرى عن تعاميه إزاء القيم الخالدة، وفي مقدّمتها المعرفة الممثلة بالنور أو بالفيض سيراً نحو زهرة الخلاص.. وهو يدرك مقدار المصاعب الجمّة التي تعترضه وبالرغم من أنه يستطيع اجتيازها بمفرده، إلاّ أنه لن يعتبر نفسه فد حقق فوزاً ما لم تقتنع الناس بهدم تلك الأسوار التي تعيق تقدّمهم: بيدين متشققتين يحاول الحكيم هدم جدران الجهل التي تنتصب أمامه كلّما مشى خطوة في طريق النور، وكلّما هدم سوراً ارتفعت أمامه أسوار أخرى.. وكأننا هنا أمام بروميثيوس الذي أشفق على البشر فقدّم لهم هبات كثيرة من مثل فنون العمارة والبناء وعلم الفلك والنجوم... ثمّ تجرأ على زيوس وأعطاهم النار التي مكّنتهم من العلم والاختراع ثمّ ما لبثت الثقافة الجديدة تنتشر في بقاع العالم، وكأننا بهذه النار زهرة الخلاص الرمز الذي وظّفه المؤلّف، فلا بأس إذاً على الحكيم أن يلقى هذه المعاناة، فيما إذا قارنا معاناته بعقوبة بروميثيوس الكبيرة، حيث إنه ربط إلى صخرة في جبال القوقاز، وكلّ صباح يأتيه نسر عملاق ينهش كبده، بينما تتجلّى معاناة الحكيم بقوله: برجلين حافيتين يعبر الحكيم حقول الشوك بحثاً عن زهرة الخلاص، ولكنه لا يصل إليها إلاّ دامياً... وعندما يحملها عالياً تنقشع الظلمة من طريقه وترفرف فوق رأسه طيور المعرفة... الجسر في الطريق إلى المدينة سنحظى بحوار إضافيّ يبدو أن القصد منه إفهام السارد بما لم يفهمه بعد، وهو الذي دفعه فضوله للمغامرة معهما، وهذا يشير إلى مسألة أساسية في السلوك الإنساني، ألا وهي أن الفضول والمغامرة دافعان أساسيان لاكتساب المعرفة ولذة الاكتشاف، وها هو على تخوم المدينة يرقب الشاعر وقد تأججت عواطفه تجاه حبيبة تسكنها فينشد بوحاً حزيناً بعدما أضناه الهجر، لولا أن الجسر المفضي إلى المدينة يستوقفهم فيقول الحكيم: كلّ جسر هو أرض معلّقة في الهواء ينزلق العابرون فوقه إلى مصائرهم بينما يقول الشاعر: أمدّ رقبتي كي تعبرين حرة نحو الشمس/ أمدّ دمي نهراً لسقاية وردك في المزهرية، ومن المؤسف أن هذه المجتزآت لا تفي المؤلّف حقّه نظراً لأن المتناظرين قدّما آراءهما في كلام بليغ ينهض على فلسفة حياتية راقية فضلاً عن اللغة الفائضة بعبقها الآسر. ماذا يفعل حكيم وشاعر في مدينة هجراها ذات يوم، المدينة التي ستبدو لهما صاخبة ومزدحمة بأبراجها السكنية وشوارعها الواسعة التي باعدت بين السكان الذين كانوا حتّى الأمس القريب يشكّلون لحمة اجتماعية متجانسة ومتضامنة في السرّاء والضرّاء، وهل سيجدان ما يبحثان عنه بعد غياب تراكم في الزمن؟ يتناول المؤلّف مسألة الهجرة والحنين إلى الحاضنة الأولى عبر موقف كلّ منهما. والعودة إلى الحاصنة الأولى بعد زمن اغترابي نفسي أو قهري تناولها الشعراء والروائيون منذ هوميروس في الأوديسة وكلّ على طريقته في التعبير عن هذه العودة إلى ملاعب الصبا والتكوين الثقافي والعقلي، إلى الحبّ الذي كان وها هو يشعل الذكريات.. لكنه الزمن الذي يبدد ويفرّق لا يشعر به الشاعر الذي ظلّ يكتب حبّه: وكم تأرجحت النجمة تنوي السقوط في تاجك وكم اهتاج المحيط ولم نسمعه يغرق لأن اسمكِ كان يولد ويختفي.. فأجابه الحكيم بتأثّر: تهرب الدنيا من يدنا أحياناً مثل سبحة قديمة فتتناثر أيامنا على الأرض، ولا نعرف كيف نلملم أجزاء حياتنا..

مشاركة :