مرة أخرى تثبت نجران أنها أرض التسامح والتعايش، وأن أبناءها الذين عرفوا منذ وقت بعيد بكرم أخلاقهم وخصالهم؛ لا يزالون يحرصون على التمسك بالإرث الذي تركه لهم أسلافهم الكرام. كما يفخرون بالتنوع الذي يُميِّز منطقتهم، ويرمز إلى التاريخ العريق والحضارة الراسخة.خلال الأيام الماضية انشغل الرأي العام بنبأ قبول قبيلة «آل عرجاء» في نجران تخفيض مبلغ الحكم في إحدى القضايا من 15 مليون إلى 2 مليون ريال، تقديراً لوساطة وطلب شيخ شمل قبائل آل فاطمة يام محمد بن علي أبوساق. فقد كانت اللحظات مشحونة بالترقب والانتظار، عندما امتلأ المكان بأعداد كبيرة من أبناء القبائل ومشايخها، وجموع هائلة من المواطنين.وسط هذه الحشود الضخمة، قام الشيخ أبوساق بخلع البشت والشماغ والعقال؛ وألقاهم تجاه مجموعة من الأشخاص، فسارع بعضهم بأخذها، وألبسوها لشخص آخر لمطالبته بقبول تخفيض المبلغ، في تقليد قبلي يحمل معاني عديدة، فما كان من أصحاب الشأن إلا أن بادروا بإعلان قبولهم لوساطة الشيخ القبلي البارز، فارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، وسالت دموع الرجال الغالية فرحاً بنجاح المساعي الحميدة.هذه الصور الإنسانية المعبّرة تحمل كثيراً من الإشارات التي تؤكد سمو الإنسان السعودي ونبل أخلاقه، وتقديره لخواطر من اعتادوا على السعي بين الناس بالخير والمعروف، وأنها تساوي عندهم ما هو أغلى من ملايين الريالات، وأن المال يأتي في آخر اهتماماتهم.وإن كانت مشكلة ارتفاع مبالغ قيمة الديات التي تدفع في قضايا القتل قد أصبحت هاجساً يؤرق الجميع في كل مناطق المملكة، فقد قطعت نجران - بفضل الله أولاً، ثم بجهود أميرها المحبوب صاحب السمو الأمير جلوي بن عبدالعزيز- شوطاً كبيراً في التغلب على هذه المشكلة، فقد أولى غاية اهتمامه لهذه القضية التي تتقاطع مع تقاليد المجتمع، وتضع أعباء كثيرة على ذوي من يتورطون في جرائم قتل، حتى تمكن - بمساعدة زعماء قبائل المنطقة وأعيانها والمهتمين بإصلاح ذات البين - من التوصل إلى اتفاق ملزم وقّع عليه الجميع، بتحديد مبلغ 5 ملايين ريال كسقف أعلى في حالات الوفاة، ومليون ريال لحالات الإصابات البليغة، ونصف مليون لبقية الإصابات.وقد التقط مشايخ نجران ووجهاؤها والخيرون من أبنائها هذا الاتفاق، وسعوا كثيراً إلى تطبيقه، لتوافقه مع التزام مجتمعهم المحافظ بمبادئ الإسلام السمحة، التي تدعو للتسامح والصفح والعفو عند المقدرة، إضافةً إلى قيم العروبة وتقاليدها الأصيلة، ومبادئ المجتمع السعودي الكريم، من مروءة وشهامة ونخوة.ولأن مجتمع نجران - كما ذكرت- يحفل بالعديد من رجال الخير وأصحاب المعروف، فإن أمثال الشيخ أبوساق لا يترددون في تسخير وجاهتهم وتوظيفها لمصلحة المجتمع، فيسارعون إلى التوسط عند حدوث النزاعات التي لا يخلو منها أي مجتمع بشري. لذلك فقد قام في هذه المرة بجهوده الخيرة، وظهر عليه التأثر الشديد للدرجة التي دفعته للبكاء، وسالت دموعه الغالية على وجهه، وهو ما أثار مشاعر العديد من الحاضرين، الذين سارعوا إلى تهدئته.هذه الصورة النبيلة التي قدمها مجتمع نجران المترابط، تعد امتداداً لنهج الدولة الثابت، الذي قامت عليه منذ توحيدها على يد المغفور له - بإذن الله - الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، الذي اهتم ببسط الأمن والاستقرار، وكذلك اهتمت المؤسسات الرسمية بتشجيع مبادرات الصلح والعفو، عبر الشفاعات التي قام بها ملوكنا الكرام وأولياء العهد وأمراء المناطق، إضافةً إلى إنشاء لجان إصلاح ذات البين في مختلف المناطق.لذلك، فإن نجران تعيد تسليط الضوء على ما يتمتع به أبناؤها من الإيثار والرغبة في الأجر والثواب من عند الله، فالتحية لسمو الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد، أمير منطقة نجران، ونائبه صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن هذلول، على اهتمامهما ومتابعتهما ورعايتهما للقضية، وسعيهما إلى التوصل لحلول مرضية لكافة الأطراف. والشكر موصول لمشايخ المنطقة الكرام والوجهاء والأعيان، الذين لا يتأخرون عن بذل المعروف والسعي بين الناس بالخير، هدفهم مصلحة مجتمعهم ونمو بلدهم، دون انتظار الشكر من أحد أو الثواب سوى من رب العالمين.
مشاركة :