تواجه الشركات المساهمة خيارين رئيسيين فيما يتعلق بتوزيع الأرباح، إما الاحتفاظ بالأرباح لتنمية أعمالها ورأس المال، أو توزيعها على المساهمين في صورة أرباح نقدية، ويعتمد القرار على مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك استراتيجية الشركة، والظروف الاقتصادية، واحتياجات المساهمين. ويعد توسيع رأس المال أمرًا ضروريًا للشركات التي ترغب في النمو، حيث إن الشركات أمام بديلين في هذا الصدد، الأول التوسع في رأس المال استخدامًا للأرباح والثاني الاقتراض بما له من مخاطر ومحددات، لذا فإن الأفضل استخدام الأرباح بدلًا من الاقتراض. حسبة معقدة للغاية وتبقى بعض الممارسات العملية التي تفضل المزج بين القروض والأرباح في التوسع لا سيما في ظل عمل بعض آليات السوق الحر لتصنيف الشركات ونظرتها "الإيجابية" لبعض الديون كمؤشر لثقة الأسواق في الشركة. ولذلك تعد مسألة توزيع الأرباح بين التوسع وبين التوزيع مسألة معقدة، وليس أدل من ذلك أنه ووفقًا لدراسة أمريكية فإن متوسط نسبة توزيعات الأرباح من الأرباح التشغيلية للشركات المدرجة في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" 53%، ومع ذلك، هناك تفاوت كبير بين الشركات، حيث تتراوح النسبة من 0% إلى 100%. وبشكل عام يعتمد قرار تحقيق التوازن بين توسيع رأس المال وتوزيع الأرباح على المستثمرين على مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك: استراتيجية الشركة: إذا كانت الشركة تركز على النمو والتوسع، فقد ترغب في الاحتفاظ بمزيد من الأرباح للاستثمار في المستقبل أو لتعزيز رأس المال القائم. الظروف الاقتصادية: في أوقات الاقتصاد المتقلب، قد ترغب الشركات في الاحتفاظ بمزيد من الأرباح لتوفير السيولة. احتياجات المساهمين: يرغب بعض المساهمين في الحصول على توزيعات أرباح عالية، بينما يفضل البعض الآخر الاحتفاظ بالأرباح للاستثمار في الشركة. ولذلك فإنه خلال فترات النمو الاقتصادي، تميل الشركات إلى تحقيق أرباح أعلى، وبالتالي يكون لديها المزيد من الأموال المتاحة للتوزيع على المساهمين. كما أن المستثمرين يكونون أكثر استعدادًا لتحمل مخاطر الاستثمار في الشركات التي توزع أرباحًا عالية، وذلك لأن الأرباح تُعد مصدرًا للدخل المنتظم للمستثمرين. وعلى سبيل المثال وفي فترة النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، زادت توزيعات الأرباح على المساهمين بشكل كبير، حيث ارتفعت توزيعات الأرباح السنوية لشركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 10% في عام 2004، و12% في عام 2005، و15% في عام 2006. أما خلال فترات الركود الاقتصادي، تحقق الشركات أرباحاً أقل، وبالتالي يكون لديها أموال أقل المتاحة للتوزيع على المساهمين، كما أن المستثمرين يكونون أقل استعدادًا لتحمل مخاطر الاستثمار في الشركات التي توزع أرباحًا عالية، وذلك لأن الأرباح قد لا تكون مضمونة خلال فترات الركود الاقتصادي. وعلى سبيل المثال وفي فترة الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخفضت توزيعات الأرباح على المساهمين بشكل كبير، حيث انخفضت توزيعات الأرباح السنوية لشركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 2% في عام 2008، و10% في عام 2009، و12% في عام 2010. "شكرا لشرائكم سهمنا" وبشكل عام يعد توزيع الأرباح وسيلة لـ"مكافأة المساهمين" على استثماراتهم، أو كما يقول المستثمر الشهير "بيتر لينش" إنها وسيلة من الشركة لتقول لحملة الأسهم: "شكرًا لشرائكم سهمنا"، ويمكن أن يكون توزيع الأرباح نقدًا، أو أسهمًا جديدة، أو أسهمًا ممتازة، ويساهم توزيع الأرباح في زيادة القيمة السوقية للشركة، ويجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين. غير أن بعض الشركات الأكثر نجاحًا تميل بشكل عام إلى الاحتفاظ بالأرباح بنسب أكبر، وذلك سعيًا للمزيد من التوسع واستغلالًا لثقة المساهمين في الإدارة، ومن ذلك أن شركة مثل "آبل" قامت بتوزيع 14.5% فقط كأرباح نقدية خلال السنوات الخمس الماضية، وارتفعت هذه النسبة بشكل طفيف في الربعين الأول والثاني من 2023 لتصل إلى 15.39%. والسؤال هنا لماذا تقوم الشركة بتوزيع بعض الأرباح ولو كانت محدودة ولا تقوم باستخدامها بشكل كامل في تعزيز رأس المال خاصة أن هذا قد يلاقي موافقة من جانب المساهمين الرئيسيين في أحيان كثيرة؟ لعل السبب الأول، هو منح المستثمرين والمشترين المحتملين للأسهم والسوق ككل حالة من الطمأنينة عن مستقبل الشركة، وأن الوفورات التي تحققها تكفي لزيادة رأس المال ولتوزيع الأرباح النقدية أيضا، بمعنى أن توزيع نسبة ولو ضئيلة من الأرباح قد يكون مفيدا لصورة الشركة دون تهديد استثماراتها. لماذا يكون حجب الأرباح منطقيًا "أحيانًا"؟ ولكن في بعض الأحيان فإن عدم توزيع أرباح، مثلما تفعل "أمازون" و"ميتا" في غالبية الأرباع المالية خلال السنوات الخمس الأخيرة، يؤكد رسالة الشركة في رغبتها الملحة في التوسع وتجعلها بصورة واضحة أسهم رهان على النمو فحسب. وفي حالة "ميتا" مثلا فقد أعلنت الشركة أنها استثمرت 10 مليارات دولار في البحث والتطوير، كما أعلنت أنها ضخت 15 مليار دولار في النمو والتوسع الدولي، خلال عام 2022 هذه الاستثمارات تحتاج إلى تمويل، الأمر الذي يبرر عدم توزيع الشركة لأرباح على المساهمين. ومع مواجهاتها لتحديات منافسة كبيرة من "تيك توك" و"سناب" و"يوتيوب" وغيرها، والضغوط التنظيمية التي تستهدف "ميتا" في الولايات المتحدة وخارجها، فضلا عن التركيز على الاستثمار في عالم الميتافيرس فإن حجب الأرباح بشكل كامل يصبح خيارًا منطقيًا أيضا. "المكاشفة" الحتمية لكن ومع حجب الشركات للأرباح عن المستثمرين بشكل كامل يكون عليهم تقديم خطط واضحة للنمو، مثلما أعلنت "تسلا" خططها لإنشاء مصنع جديد في ألمانيا ومصنع آخر في تكساس، وقدمت تفاصيل حول خططها التوسعية، بما في ذلك حجم الاستثمارات والجدول الزمني المتوقع. وأعلنت "أمازون" خططها لإنشاء 100 مركز توصيل جديد في الولايات المتحدة، وقدمت الشركة تفاصيل حول خططها التوسعية، بما في ذلك حجم الاستثمارات والوظائف المتوقعة، فهذه "المكاشفة" تصبح أكثر أهمية ويصبح توقيتها "المبكر" حيويًا لاستقرار الشركة وضمان دعم المستثمرين أكثر من بقية الشركات. النموذج المضاد "المستقر" وفي مقابل الشركات التي تحجب الأرباح تأتي تلك التي توزعها، حيث تشير البيانات الأمريكية إلى أن أكثر من 80% من أكثر 100 شركة توزيعًا للأرباح خلال الأعوام العشرة الماضية في السوق الأمريكية هي شركات تعمل في قطاع العقارات والمرافق، حيث تتسم أعمالها بحالة كبيرة من الاستقرار من جهة فضلًا عن صعوبة توسيع أعمالها في ظل اقتصاد نام بالفعل في الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال توزع شركة "إيه.تي.آند.تي" العاملة في مجال البنية التحتية للاتصالات حوالي 80% من أرباحها على المستثمرين (في المتوسط)، بينما تصل النسبة إلى 60% في "كوكاكولا"، ونصف الأرباح في "بروكتز آند جامبل" وبشكل عام تشترك هذه الشركات في حاجتها إلى تعزيز رأس المال وتوسيعه بدرجة أقل من غيرها في ظل صناعات مستقرة نسبيًا. وتركز استثمارات صندوق التقاعد الياباني، والذي يزيد حجم أصوله على 1.5 تريليون دولار، والتي تديرها شركة "بلاك روك" على الأسهم من تلك النوعية التي تقوم بتوزيع الأرباح، وذلك حرصًا على مدخرات المتقاعدين والتي "لا يمكن تعويضها" في ظل توقفهم عن العمل. ويمكن تشبيه هذا النوع بأنه أقرب للاستثمار المباشر منه للاستثمار عبر سوق المال، في ظل الاعتماد على الدخل من الاستثمار وليس زيادة قيمة الاستثمار من جهة، وفي ظل الرغبة الواضحة في السيطرة على رؤوس الأموال وتجنب تراجع قيمتها (باستثناء حالات الاستثمار المباشر برأس المال المغامر). والشاهد أنه على المتداول أن يدرس بدقة خياراته ومحددات الاستقرار من جهة والنمو من جهة أخرى في كل شركة يسعى للاستثمار بها، وأن يدرس بدقة احتمالات النمو للشركات التي لا توزع الأرباح بنسب عالية، واحتمالات مواصلة النمو لفترة طويلة دون دعم للشركات التي توزع غالبية أرباحها على المستثمرين، ففي كلتا الحالتين فإن الأمر يبقى سلاحًا ذا حدين.
مشاركة :