بشري (لبنان) - من تمثال للمفكر والرسام جبران خليل جبران عند مدخل بشرّي بشمال لبنان، يدرك الزائر أنه وصل إلى مسقط صاحب كتاب "النبي" الشهير الذي يُحتفل هذه السنة بمئوية صدوره. في المتحف الذي يحتضن رفات المؤلف منذ وفاته عام 1931، يمكن الاطلاع على نسخ بأكثر من لغة من الكتاب، إذ إن الشهرة الكبيرة التي حظيَ بها بعدما نشرته في سبتمبر/أيلول 1923 دار "كنوبف" الأميركية، دفعت لترجمته إلى 115 لغة، وبيعت منه ملايين النسخ، وبات المفضّل لملايين القراء في مختلف أنحاء العالم. ويقول مدير متحف جبران خليل جبران جوزف جعجع لوكالة فرانس برس إن الكتاب "يتقرّب من روحية كل فرد، من خلال معالجة مواضيع الموت والحياة والصداقة والحب والأولاد وسواها، فيشعر كل قارئ أينما وجد أن هذا الكتاب يعنيه ويمسه في الصميم"، سواء أكان "مسيحيا أو مسلما أو يهوديا أو غير مؤمن". وللمؤلّف الذي كتب في "النبي" عبارة "ويل لأمّة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين"، مجموعة كبيرة من الأقوال يتصدر بعضها السور الخارجي للمتحف. ويذكّر الكاتب والروائي اللبناني باللغة الفرنسية ألكسندر نجار خلال أمسية قراءات من "النبي" أقيمت أخيرا في بيروت، بأن الكتاب حصد في ستينات القرن الماضي "إعجاب الجامعيين" و"حركة الهيبيز التي استهوتها جملته الشهيرة +أولادكم ليسوا لكم+". وتعلّق بالكتاب زعماء عالميون ومشاهير، كإمبراطورة اليابان ميتشيكو ورئيسة الوزراء الهندية الراحلة إنديرا غاندي وعضو فرقة "بيتلز" جون لينون والمغني جوني كاش وكثر سواهم، وفق جعجع. وكان نجم الروك الأميركي إلفيس بريسلي "يدوّن عليه ملاحظاته ويهديه إلى أصدقائه ويعتبر أنه قلب حياته"، بحسب نجّار. ويرى نجار أن أسلوب الكتاب "يذكّر بالإنجيل على غرار عبارة +الحقّ أقول لكم+" التي كان يخاطب بها المسيح تلاميذه. ويقترب كذلك من كتاب "هكذا تكلم زرادشت" للفيلسوف الألماني فريدريتش نيتشه. لكنّ جبران بدا في كتابه "أكثر شاعرية وأقل فلسفة"، ملاحظا أن في "النبي" صورا "مستقاة من عالم التصوّف". أما الكاتبة والرسّامة اللبنانية الفرنكوفونية زينة أبي راشد التي أصدرت أخيرا كتابا بالفرنسية حوّلت فيه "النبي" إلى قصة مصوّرة من 400 صفحة، فترى أن "نص جبران ليس كسائر النصوص. كان تحديا جميلاً"، مشددة على أهمية "إعادة نشره بطريقة مختلفة لكي يكتشفه الجيل الجديد من لبنانيين وغير لبنانيين". على طاولة في إحدى غرف المتحف في بشرّي حيث ولد جبران عام 1883، تُعرض الترجمات الأولى لكتاب "النبي" وبلغ عددها 11 خلال المرحلة الممتدة من 1923 إلى 1931، أبرزها بالألمانية والهولندية. ويضم المتحف 53 ترجمة، من بينها أيضا السويدية والصينية والنرويجية. وأقيم المتحف الذي يطلّ على جبل المكمل من الجهة اليسرى ووادي قاديشا من الجهة اليمنى وتحيط به غابة تطغى عليها أشجار السنديان، في ما كان في مطلع القرن الثامن عشر دير مار سركيس للآباء الكرمليين. ويروي جان بيار رحمة الذي يعمل في المتحف أن جبران الفتى كان يتردد دائما على الدير ويرسم رئيسه بالفحم جالسا على المصطبة أمام مدخله الرئيسي. ويوضح جوزف جعجع أن "رغبة شديدة بالعودة إلى بشرّي كانت موجودة لدى جبران، بعدما هجرها وهو في الثانية عشرة مع والدته وشقيقه وشقيقتيه. لكنه توفي" قبل تحقيق هذه الرغبة. بعد وفاته، وافق الرهبان على أن يبيعوا الدير والأرض المحيطة به إلى شقيقته مريانا، وتحوّل مدفنا له في أغسطس/آب عام 1931، ثم متحفا لأعماله التشكيلية ومخطوطاته ومقتنياته عام 1975. ويعرض المتحف 150 لوحة لجبران من أصل 440 موجودة لديه، إضافة إلى ألف كتاب موزعة على الغرف في طبقاته الثلاث. ويشير جعجع إلى أن بداية جبران بالرسم كانت بقلم الرصاص والفحم. وفي سنة وفاته عاد إلى الأبيض والأسود، ولكن أياّ كانت التقنية المتّبعة فيها، تحمل لوحاته بأحجامها المتفاوتة "نظرته الروحانية العميقة إلى الوجود، إلى الموت والحياة في آن واحد"، وتطغى الأجساد العارية على عدد منها. فالطبيعة هي الأساس في نتاج ريشته، على ما يقول جعجع "هي الأم الحاضنة لكل الكائنات، هي الأرض، هي المرأة التي وقفت إلى جانبه". ويحتضن المتحف بورتريهات لأصدقاء وشخصيات عرفها جبران من بينها مي زيادة التي ربطته علاقة حب أفلاطونية معها والمحلل النفسي السويسري كارل يونغ والشاعر وكاتب مسرحية سيرانو دو برجوراك الفرنسي إدمون روستان والفيلسوف الهندي طاغور والكاتبة الأميركية تشارلوت تيلر وسواهم. ويقول المدير العام لمتحف إتيان دينيه الوطني في الجزائر رابح ظريف الذي كان يزور المتحف "كأن جبران عندما كان يعجز عن التعبير كتابة، كان يلجأ إلى الرسم وبالعكس. لوحاته نصوص مفتوحة". ويرى ظريف أن لوحات جبران التي يتوزّع عدد منها على متاحف عالمية، "تحمل أفكارا رؤيوية تجاوز فيها عصره"، مستنتجا أن رسم المرأة العارية كان أشبه "بردّ فعل من جبران على قمعها في المجتمعات العربية، وكأنه يدعو إلى تحررها". وتأثرت حركة زوار المتحف منذ أسابيع بالتوتر القائم في لبنان على خلفية الحرب بين حركة حماس وإسرائيل. لكن عندما يكون الوضع مستقرا، يصل عدد الزوار إلى 50 ألفا سنويا، وفق جعجع الذي يشرح أن "المتحف يستقبل في الربيع زوارا أوروبيين، وفي الصيف يأتي اللبنانيون المغتربون فيصل الإقبال إلى ذروته، وما بين هذين الفصلين يقصد المتحف سياح من دول عربية". كما يقصده زوار من الولايات المتحدة وكندا ومن أميركا اللاتينية وأستراليا، و"تتراجع الحركة في الشتاء". ويزور هؤلاء مدفن جبران داخل مغارة محفورة في الصخر حيث وضع بورتريه له بريشة الرسام اللبناني يوسف الحويك. في إحدى القاعات، أثاث وأغراض من منزل جبران في نيويورك: إبريق شاي على طاولة منخفضة، وكرسي خشبية ومرآة إطارها برونزي. وكان جبران يجمع صلبانا وأقنعة. أما مكتبته، فتتوزع محتوياتها على أربع غرف، وتضم مجموعة "البؤساء" لفيكتور أوغو وقصص شيرلوك هولمز وكتبا تاريخية ولاهوتية وفلسفية… وجُهِّز المتحف بآلات تعدّل الحرارة والرطوبة للحفاظ على اللوحات والمحتويات، وتعتمد إدارته منذ عشرة أعوام "مكننة العمليات وتحديثها من خلال جهاز دليل الصوت ولافتات الشرح التوضيحي المعلقة على الحائط". وللمتحف منشورات عدة ويتعاون مع متاحف في الخارج لتنفيذ معارض للوحات جبران ومقتنياته ومخطوطاته. وأعدت إدارة متحف جبران العدة للمشاركة على مدى عام ونصف عام في معرض في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك بمناسبة مئوية "النبي". ويوضح جعجع أن المتحف "اختار 23 لوحة نسبة إلى 2023، من بينها ما يمثّل الأشخاص الذين كان لهم دور أساسي في كتاب +النبي+ على غرار والدة جبران الداعمة الأساسية له". وشارك المتحف بالعشرات من لوحات جبران في معرض أقيم في نيويورك، ضمّ نحو 110 لوحات لجبران موجودة في المتاحف الأميركية. ويكشف جعجع أن البرازيل أصدرت طابعا بريديا في مناسبة المئوية. وتنتهي أنشطة المئوية بمشاركة في معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي افتُتِح أخيرا، وفي مؤتمر عن جبران بجامعة صوفيا في بلغاريا في ديسمبر/كانون الأول. وتشكّل هذه المكانة العالمية لجبران خليل جبران مصدر فخر في بشري وكل لبنان. وقرب المنزل الصغير الذي عاش فيه طفلا في ساحة بشرّي والذي يتوسط حديقته المهملة اليوم تمثال نصفي له أقيم على قاعدة رخامية، تقيم المسؤولة عن المنزل نايلة كيروز التي تحرص على أن تطلّ من شرفتها القريبة منه لتتفقده، حتى لو كانت في إجازة. وتقول دامعة "ماذا يعني لي جبران؟ الكثير.. أنا أعتبره أرزة من أرزات لبنان".
مشاركة :