قال أبو عبدالرحمن: منذ ترعرعت مداركي سعيت في إبداع منهج النقد التفسيري الجمعي التعاوني؛ وهذا المنهج ضرورة نقدية لتناول الأعمال الفنية سواء أكانت إبداعاً معتداً به، أم كانت عملاً مختلفاً فيه؛ أم كانت عملاً مستهجناً عند جمهور النقاد، وجمهور المبدعين.. وكانت عناصر التكامل في عملي مؤلفةً من مباحث نشرتها في بعض مؤلفاتي؛ ومما احتفظت به في مكتبتي من تعليقات على مباحث اقتنيتها من الدوريات والجرائد، ومن مسودات كتبتها عن ظهر قلب، ثم أودعتها في أضابيري؛ وهكذا مع ما يستجد لي من معارف على مدى العمر؛ كي يكون تناولي (النص الفني)، و(أصول نقده) تناولاً بـ(الإحساس الجمالي) مستعيناً بالله ثم بمنهج النقد التفسيري الجماعي التعاوني؛ وقد أحكمت هذا المنهج أولاً في دراساتي أدب (كافكا) المنشورة بمجلة (التوباد) التي كنت أرأس تحريرها، ثم في كتيبي الذي درست فيه قصيدة (يا ساهر البرق) لـ(أبي العلاء المعري) الذي صدر عن نادي جازان الأدبي عام 1416هـ الموافق 1995م؛ وهو منهج اصطنعته لا على أنه شهوة إغراء، وادعاء ميزة؛ بل لأنه ضرورة علمية فكرية من أجل تصنيف الأديب (أي أديب معترف به)، وفهم أدبه بإنصاف قبل الاستمتاع بالقيم الجمالية؛ لأن ميزة النص الفني وخاصيته: أن يكون بالتعبير الأسمى؛ وهو الأداء الجمالي؛ وغاية مضمونه أن يكون عظيماً ممتعاً؛ لأن العظمة والمتعة عنصران جماليان؛ فإحساسي بفنية النص محكوم بمعيار الجمال والجلال؛ وهذا المنهج يقوم على نقد جماعي لجميع جوانب النص الأدبي, أو نقد فرد واحد ذي تخصصات متعددة لجميع جوانب النص, أو يقوم على النقدين معاً لجانب واحد أو أكثر, أو على النقدين لظاهرة ما أو أكثر في جانب واحد أو أكثر؛ فيدخل في ذلك انتماء الأديب, والدراسات النفسية, وتحليل عملية الإبداع بعد اكتشافها, والدراسات المقارنة: بنصوص للأديب نفسه، وبنصوص لغيره, وبدراسات النقد التاريخي؛ لأنها مطلب من أجل سيرة الأديب، وبتوثيق النص؛ وتوثيق خصوصيته، وخصوصية الإرث التاريخي في واقع الأديب وأدبه, ومعرفة نتائج ذلك الإرث. قال أبو عبدالرحمن: منذ تذوقت الآداب بمعيار القيمة الجمالية: أنتجت لي المعاناة التجريبية: أن ذلك لن يتحقق إلا بعد عناء مع تحصيل خبرة تعاون بشري لفهم النص؛ وذلك هو منهج (النقد التفسيري الجماعي التعاوني).. ومن عناصر هذا المنهج: الدراسات التاريخية لبيئة الأديب، وللمذاهب الأدبية في عصره ومصره، والمؤثرات في ثقافته.. وأجلو الفرق بين (مذهب النقد التفسيري التعاوني) الذي غرضه معرفي بحت، وبين ما هو من صميم النظرية الأدبية؛ وهو (الإحساس بالجمال الفني). قال أبو عبدالرحمن: من المهم في هذه الجولة الحديث بدقة واستيعاب عن قيمة (الرمز)؛ فهو قيمة جمالية مقصودة يكشفها الإحساس بالجمال؛ وهو قيمة فكرية يختفي وراءها الأديب دون البوح بغايته؛ وإن كان الرمز ليس قيمةً جمالية دائماً؛ فهذه يكشفها منهج النقد التفسيري التعاوني، ويجلي نية الكاتب وأهدافه؛ وبما أن منهج النقد التفسيري لخدمة الكشف عن القيمة الفنية، وليس هو نفسها: رأيت مثل (جورج بواس) في كتابه (الفلسفة والشعر) قد جعل هذا المنهج حاكماً على الأفكار في الشعر؛ وحكم على منهج النقد التفسيري من أجل الكشف عن القيمة الفنية: بأنه عادة ممتهنة زائفة، وقال: «ما من أحد تجاوز السادسة عشرة من عمره يجد أن قراءة شعر الشاعر لمجرد معرفة ما يقوله تستحق منه أي جهد».. (انظر نظرية الأدب ص141 وص402). قال أبوعبدالرحمن: أما أن ذلك زائف ممتهن: فذلك صحيح لو كان الهدف غير استخراج القيمة الفنية، وأن المتلقي لا يضيف جهداً لاكتشافها بحس جمالي، ورؤية فكرية؛ إذن ليس ذلك عادةً زائفةً؛ لأنه سبيل فهم وإحساس؛ بل الزائف العناد، ومكابرة الواقع العلمي؛ لأن المراد فهم ما كان غامضاً، وفهم ما هو مختلف في إدراكه؛ وإذن من المحال الاستمتاع بقيمة النص الفني قبل فهمه.. وأما نفي (جورج بواس) الجهد: فغير مسلم؛ لأن الرمز يحتاج فكه إلى قريحة، وكد ذهن، وثقافة.. والهدف من حل الرمز: إما الكشف عن نية الكاتب؛ وهذا يتعلق بعنصر (الجلال).. وإما الكشف عن غموضه؛ لتتجلى قيمة الجلال والكمال معاً، أو يظهر نقيضهما.. والدراسات النفسية ذات مردود على منهج النقد التفسيري، ومنهج الكشف عن القيمة الجمالية؛ وهذا هو ما نجده مفرقاً في تقسيم (رينيه ويليك) وزميله في كتابهما (نظرية الأدب) ص101؛ إذ جعلا علاقات الأدب بعلم النفس محصورةً في التالي: الدراسة النفسية للكاتب بوصفه نموذجاً وفرداً، ودراسة عملية الإبداع عنده، ودراسات نفسية تربط الأديب وأدبه بالأنماط أو القوانين التي توجد في الأعمال الأدبية، ودراسات نفسية تكشف عن آثار الأدب على قرائه. قال أبوعبدالرحمن: إذن فعل الدراسة السيكلوجية: أنه يكشف من جهة عن جوانب من القيمة الجمالية؛ وذلك هو بتحليلها فكرياً وفنياً؛ وتحليل ملكة الإبداع عند الأديب.. ومن جهة ثانية يكشف عن مزاج الأديب، وانتمائه الذي يخفيه؛ وبهذا يتبين أن التحليل النفسي يتجاوز المدلول الذي هو وقائع النص؛ ليكشف عن تفسيره من ناحية الباعث له، وليكشف عن نية الكاتب ووسيلته في إخفاء الباعث.. وقد تكثر التحليلات النفسية وتتناقص؛ ولكن المرجح يوجد في الوقائع التاريخية مثل سيرة الأديب؛ ومن أمثلة ذلك حيرة المحللين مسرحية (هاملت) لـ(شكسبير) حول تساؤل واحد هو: (ما الذي جعل (هاملت) يتوانى في الثأر لأبيه)؛ فمن بين تلك التعليلات: أن تدينه المسيحي منعه من قتل عمه، أو أنه امتزج عنده حب عمه وكرهه معاً.. ولو كان يحبه وحسب، أو يكرهه وحسب: لتغير الموقف.. ومنها أنه ضعيف الإرادة؛ فهو يغطي جبنه بالتأني الفكري.. انظر التحليل الممتع لتحليلات الدارسين موقف (هاملت) في كتاب (التفسير النفسي للأدب) ص134-163. قال أبو عبدالرحمن: التحليل لتواني (هاملت) مع أنه بطل مسرحية: أنه وهمي، أو نموذج لواقع لا يختلف عن تحليل فعل شخص واقعي؛ فما عليك إلا أن تعيد قراءة المسرحية؛ وليس على بالك غير إحصاء سيرة (هاملت) ومعرفتها؛ لتأخذ من خبرتك بسيرته المرجح بين تلك الاحتمالات أو غيرها.. وسيرة البطل معروفة محصورة في المسرحية؛ فالرجوع إلى تحليل سيرته أسهل من الرجوع إلى سيرة شخص واقعي؛ وإنما تبحث بعد ذلك من سيرة (شكسبير) الواقعي ما عساه يكشف عن سر اختياره هذه الشخصية الوهمية.. وعندما يزعم (غونتر بلوكير): أنه يقع للعمل كينونته لا مدلوله: فمعنى ذلك أن مسرحية (شكسبير) انتهت فنياً بعلمنا أن (هاملت) تردد في قتل عمه وحسب؛ ولكن القيمة الفكرية لم تنته بعد؛ لأننا نريد أن نعرف لماذا تردد (هاملت) بالمنهج التفسيري، وقد يضاعف المنهج التفسيري القيمة الفنية؛ فيظهر لنا التأمل الفكري أو الحدسي ظاهرةً مدهشةً؛ والدهشة من عناصر الجمال من خلال العرفان بأسباب تردد (هاملت)؛ وقد تغيب الدهشة؛ فيبقى المدلول، ويغيب المعيار الجمالي عن هذه الظاهرة، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** - كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -
مشاركة :