قال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الدكتور هنري كيسنجر إن "السلام والتقدم بين الصين والولايات المتحدة يصبان في مصلحة كل من البلدين وكذلك العالم". فعلى النقيض تماما مع الخطاب السابق لما يسمى بـ"فك الارتباط" أو "إزالة المخاطر" عن الصين، الذي أخذ يروجه بعض الساسة في الولايات المتحدة، تعمل الاتجاهات الجديدة الأخيرة على استمرارية التفاعل الإيجابي الحاصل منذ فترة بين الصين والولايات المتحدة. بدءا من زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى بكين في يونيو، زار العديد من كبار المسؤولين الأمريكيين الصين واحدا تلو الآخر، بمن فيهم وزيرة الخزانة جانيت يلين، والمبعوث الرئاسي الخاص للمناخ جون كيري، ووزيرة التجارة جينا رايموندو وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، حيث أكدوا على أهمية تحقيق الاستقرار في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة وعلى وجود استعداد لذلك. في الشهر الماضي، عقدت مجموعة العمل الاقتصادي ومجموعة العمل المالي للبلدين اجتماعاتهما الأولى عبر وصلة لفيديو. علاوة على ذلك، تضخ التبادلات الشعبية المستمرة تيارا مطردا من الطاقة الإيجابية في التنمية الصحية للعلاقات الثنائية. فقد استأنفت الصين الرحلات الجماعية إلى الولايات المتحدة مع زيادة الرحلات المباشرة؛ وأقيم حفل موسيقي خاص في بكين للاحتفال بالذكرى الخمسين للزيارة التي قامت بها أوركسترا فيلادلفيا للصين في عام 1973؛ وقدم فنانون صينيون المسرحية الراقصة "مولان" في مركز كينيدي بواشنطن؛ وشارك أكثر من 200 عارض أمريكي من قطاعات مختلفة في معرض الصين الدولي السادس للاستيراد، وهو ما يمثل أكبر حضور أمريكي في تاريخ المعرض. من ناحية أخرى، قال السفير الصيني لدى الولايات المتحدة شيه فنغ في حفل العشاء السنوي للجنة الوطنية للعلاقات الأمريكية-الصينية الشهر الماضي "مع تطلعنا إلى المستقبل، نحتاج إلى إيجاد طريق صحيح يتحقق فيه الوفاق بين الصين والولايات المتحدة في العصر الجديد". تعد الصين والولايات المتحدة أكبر اقتصادين في العالم، وتمثلان واحدة من أهم العلاقات الثنائية. أما العلاقات الاقتصادية بين البلدين فهي متداخلة بعمق. ولا يمكن للبلدين، والعالم بأسره، تحمل حدوث سوء تقدير لنوايا بعضهما البعض ومواجهة بينهما. وفي هذا السياق، قال خبير السياسة الأمريكي الشهير جوزيف ناي، وهو أيضا عميد سابق لكلية جون إف. كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، في شهر يوليو إن "ما يقلقني بشأن الفترة الحالية هو أننا نركز كثيرا على التنافس وليس بما يكفي على التعاون". وذكر ناي خلال منتدى عقده مركز بحوث في بكين الشهر الماضي"علينا أن نفكر في كيفية التوفيق بين المنافسة والتعاون في نفس الوقت. لأننا إذا فشلنا في القيام بذلك، فسوف نعاني جميعا، ليس فقط الولايات المتحدة والصين، بل المناخ العالمي والاقتصاد العالمي". إن صعود الصين يمثل فرصة وليس تحديا للولايات المتحدة. والتكامل بين الاقتصادين أكبر بكثير من التنافس. ويتعين على البلدين أن يسعيا إلى تحقيق نتائج مربحة للجانبين بدلا من الانخراط في لعبة محصلتها صفر، وأن يجعلا كعكة المصالح المشتركة أكبر. وجاء في مقال رأي نُشر في صحيفة ((فاينانشيال تايمز)) أنه "على الرغم من اللهجة الشديدة من الجانبين، لا يزال الترابط الاقتصادي بينهما قويا، ويُفيد المستهلكين الأمريكيين والصينيين على حد سواء"، مضيفا أن "الحجم الإجمالي للتجارة بين البلدين سجل رقما قياسيا في العام الماضي". وذكر المقال أن "الأضواء تسلطت على استمرار مركزية الصين بالنسبة لقطاع التكنولوجيا الأمريكي هذا العام من خلال الصف الطويل من الرؤساء التنفيذيين الذين زاروا أنحاء مختلفة من البلاد. وكان من أبرزهم إيلون ماسك من تسلا، وتيم كوك من آبل، وبات غيلسنجر من إنتل، وكريستيانو آمون من كوالكوم". ووجد تحليل أجرته ((نيكي آسيا)) أن الصين مثلت حصة كبيرة من عائدات شركات التكنولوجيا الأمريكية الأربع هذه في العام الماضي: 62 في المائة لشركة كوالكوم، و27 في المائة لشركة إنتل، و22 في المائة لشركة تسلا، و18 في المائة لشركة أبل. ولقد ساعد مثل هذا التعاون متبادل المنفعة الأسر الأمريكية على خفض تكاليف المعيشة والشركات الأمريكية على تحقيق أرباح ضخمة. وذكرت افتتاحية لصحيفة ((آسيا تايمز)) أن "هذا الزخم في العلاقات الاقتصادية الصينية-الأمريكية مدفوع بقرارات ملايين المستهلكين الأمريكيين وآلاف الشركات الأمريكية في السوق"، مضيفة "إنه يشير إلى تطور طبيعي مشترك بين الاقتصادين الأمريكي والصيني يتعين على الحكومتين العمل على تعزيزه وليس محاولة إحباطه". لقد أثبت التاريخ أن التعاون الوثيق بين الصين والولايات المتحدة له أهمية كبيرة ليس فقط للبلدين ولكن للسلام والرخاء العالميين. وفي هذا الصدد، لفت جيفري ساكس، أستاذ الاقتصاد ومدير مركز التنمية المستدامة بجامعة كولومبيا، إلى أن "التعاون بين الولايات المتحدة والصين سيقوي كلا البلدين ويعود بالنفع على العالم"، مضيفا بقوله "إنه أمر صائب وممكن بالفعل". وفي خضم توترات جيوسياسية، مثل الأزمة الجارية في أوكرانيا والقتال الدائر في قطاع غزة، أصبحت التعاون بين البلدين أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. فقد ذكر مقال رأي نُشر في صحيفة ((ذا هيل)) أن "الحرب في قطاع غزة لا تعمل فقط كتذكير للأمريكيين بأن الصين ليست تهديدا لأمريكا أو السلام العالمي، وإنما تُشكل أيضا مجالا لتعاون واشنطن وبكين في مواجهة التحديات العالمية المشتركة، بما في ذلك الصراع في الشرق الأوسط"، مضيفا "لقد حان الوقت لإعادة تنشيط سياسة أمريكا تجاه الصين". إن الإنجازات في العلاقات الصينية-الأمريكية لم تتحقق بسهولة، وينبغي الحرص عليها. وينبغي على البلدين أن يتخذا موقفا مسؤولا، ويعملا انطلاقا من رفاه الشعبين، ويتناولا العلاقات الثنائية ويعملا على تطويرها بشكل سليم لمواصلة إرث الصداقة الثمين. إن العالم كبير بما يكفي لاستيعاب تنمية وازدهار كل من الصين والولايات المتحدة. ويتعين على البلدين أن يتطلعا إلى المستقبل، وينطلقا من قمة شي-بايدن في بالي نحو قمة في سان فرانسيسكو، ويدفعا نحو تنمية مطردة وسليمة للعلاقات الصينية-الأمريكية بما يتماشى مع المبادئ الثلاثة المتمثلة في الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين. إذا تمكن الجانبان من الاقتراب من بعضهما البعض لاحتضان الحوار وليس المواجهة وهدم الجدران وليس إقامتها، فلن يكون من الصعب على البلدين أن يتكاتفا من أجل تحقيق التنمية المشتركة.
مشاركة :