الغوص في أعماق المحيطات.. تنبؤات تحولت إلى حقيقة

  • 3/23/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

من الصور الجلية الجنونية، التي يمكن أن يصل إليها كتاب وصنّاع أفلام الخيال العلمي لكي يبرزوا لنا التقنيات المستقبلية في أعمالهم، تخيل غواصة تصل إلى أعماق المحيط، فقد تخيل كاتب الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن في روايته عشرون ألف فرسخ تحت الماء Mille Lieuex sous les Mers، في العام 1869، هذه الغواصة بشكل مذهل فعلاً، تعد الرؤية الاستشرافية عند فيرن السمة الأساسية التي اعتمد عليها في معظم أعماله الإبداعية تقريباً، خاصة أنه تحقق على مستوى الواقع كل ما حلم به، وجادت به هواجسه تقريباً، ولعل رواية عشرون ألف فرسخ تحت الماء، هي الرواية التي تعبر بصدق عن أحلام جول فيرن في السفر تحت الماء من خلال الغواصة، وهي فكرة شغلت بال العديد من الناس ابتداء من الإسكندر الأكبر، حتى ليوناردو دافينيشي، وقد استوحى فيرن فكرة روايته من خلال غواصة رآها معروضة في متحف البحرية الفرنسية قبل نشر روايته بعامين، وكانت هذه الغواصة هي التي ألهمته هذه الرواية الرائدة بطريقة مباشرة، واستمد فيرن منها المعلومات التي استخدمها في وصف الغواصة نوتيليس في روايته، بعد أن أضفى عليها خياله بعض التعديلات التي رآها مناسبة لسياق نصه الروائي، وتبدأ أحداث رواية فيرن، برؤية مخلوق عجيب يجوب البحار والمحيطات يطفو على سطح الماء ثم سرعان ما يغوص، ولقد ظن الذين شاهدوه أنه نوع غريب من الحيتان، وأصبح يهدد الملاحة ويلقي الرعب في قلوب الملاحين وركاب السفن، فأرسلت الحكومة الأمريكية سفينة للبحث عن هذا المخلوق الخطر، والقضاء عليه، لكنه تمكن من إغراق السفينة الأمريكية، وكان على ظهر السفينة الأمريكية أحد علماء البيولوجيا ومساعده وشخص آخر كندي، خبير في صيد الحيتان، فوجدوا أنفسهم في مياه المحيط يصارعون الأمواج، وبعد أن أصابت الغواصة سفينتهم، واتضح أن هذا الذي ظنوه صوتاً أو مخلوقاً عجيباً، لم يكن سوى غواصة تجوب البحار والمحيطات وتنشر الذعر والفزع بين السفن المارة في طريقها، تمكن الأفراد الثلاثة من اللجوء إلى الغواصة، التي فتحت لهم بابها، فوجدوا أنفسهم داخلها، ويصف فيرن الغواصة بدقة متناهية، مستعيناً بما شاهده من النموذج المعروض في متحف البحرية الفرنسية آنذاك، ويظل العالم ومساعده والرجل الكندي أسرى داخل الغواصة التي تغوص في الماء وتجوب البحار والمحيطات في عالم عجيب غير مألوف لهم ومملوء بالحيوانات والنباتات البحرية التي يصفها فيرن بتفاصيل تظهر براعته في سرده الروائي، الذي له خصوصيته العلمية والتخيلية، وتقع الغواصة نفسها أسيرة جبل جليدي في القطب الشمالي، ويحاصرها الجليد، ويوشك من فيها على الموت لنفاذ الأكسجين، ولكن الغواصة في آخر لحظة تتمكن من الخلاص، وتواصل رحلتها التي تبدو بلا نهاية، ويضع الأسرى خطة للهرب من الغواصة، وبعد عدة محاولات، يتمكنون فعلاً من الهرب والتحرر من الأسر، وقد اعتمد فيرن في كتابته لهذه الرواية على الخيال والقراءة، حيث لم تكن علوم البحار قد تقدمت في ذلك الوقت بالقدر الذي يستطيع معه كتابة مثل هذا العمل المثير المشّوق. وفي العصر الحديث تعتبر الغواصة ديب سي تشالنجر Deepsea Challenger، غواصة مأهولة يبلغ طولها 7.3 متر صممت للوصول إلى أعمق نقطة في قاع المحيطات، وهي 11.3 كم تحت سطح البحر، وتتسع هذه الغواصة حالياً لشخص واحد، وكان المصور السينمائي الشهير جيمس كاميرون قد ركبها في 26 مارس/آذار 2012 ليصبح أول إنسان يهبط إلى هذا العمق السحيق، وشيدت الغواصة ديب سي تشالنجر، في سيدني بأستراليا، وقامت ببنائها شركة أشيرون بروجيكت بتي المحدودة، وهي شركة للبحوث والتصميم، وتتضمن ديب سي تشالنجر أجهزة لأخذ العينات، وهي مزودة بكاميرات للتصوير المجسم، وتستطيع الوصول إلى أعمق نقطة في قاع المحيط خلال ساعتين من بدء الغوص، ولتسريع عملية الغوص، فقد بنيت الغواصة عمودية، ويهدف جيمس كاميرون، وهو مصور سينمائي شهير بجودة أفلامه من تصوير الأعماق، إلى إتاحة الفرصة للإنسان لمشاهدة تلك الأعماق، وما يوجد فيها من تضاريس وربما أحياء، فمن المعلوم، أن الإنسان وصل إلى سطح القمر عام 1969، وكان نيل آرمسترونغ، أول من وطئت قدماه سطح القمر، ورأى جيمس كاميرون أنه قد آن الأوان في عام 2012، لاكتشاف مناطق على الأرض لا يعرف الإنسان عنها شيئاً. الغواصة ديب سي تشالنجر شيدت سريا في أستراليا، بمشاركة بين ناشيونال جيوغرافيك سوسيتي، وشركة رولكس، وقامت ببنائها شركة ديب سي تشالنجر بروغرام، وتحت رعاية المهندس الأسترالي رون ألوم، بمشاركة مجموعة من الغواصين المبدعين الذين لهم خبرات كبيرة في الغطس. وقامت مجموعة المصممين رون ألوم، بابتكار مادة جديدة ذات بنية بلورية خاصة تسمى إيسوفلوت، وهي رغوة صناعية تستطيع تحمل الضغوط العالية الموجودة على عمق 11 كيلومتراً تحت سطح البحر، ومن خواص تلك المادة الرغوية، أنها ذات كثافة تبلغ 0.7 جرام/سنتيمتر مكعب، وهي تطفو على الماء، وتحتوي مادة الرغوة على كرات زجاجية صغيرة جداً متماسكة بالراتينج الاصطناعي، وتشكل تلك المادة نحو 70% من حجم الغواصة. ويشمل تصميم ديب سي تشالنجر، محركات دفع تعمل بضغط الزيت العالي، وكذلك خزانات للزيت، كما تحوي الغواصة عدداً من الأجهزة الجديدة لتقوم بعملها في الظروف الصعبة، ومن ضمنها محركات دفع تعمل بالزيت المضغوط، وتحوي أيضاً مصفوفات من صمام ثنائي باعث للضوء، وكاميرات مخصوصة وكبلات اتصالات سريعة نافذة في جدار الغواصة، تسمح بإرسال الإشارات إلى الخارج، واهتم ألوم بتطوير النظام الإلكتروني للاتصالات، بعد أن اكتسب خبرة في ذلك حينما قام بتطوير النظام الإلكتروني الذي استخدمه كاميرون في تصوير بعض أفلامه التي أجراها في الأعماق، مثل فيلم بيسمارك، وغوست أوف ذي أبيس وغيرهما، وتستخدم بطاريات الليثيوم لإمداد الغواصة بالطاقة، وقد صمم بطاريات الليثيوم مجموعة باحثين بشركة لايشهاردت الأسترالية. وتحوي الغواصة كوة على شكل كرة للقيادة يبلغ قطرها 1.1 متر، يمكنها احتواء شخص بمفرده، وتتكون الكوة من جدار من الفولاذ بسمك 64 مليمتراً، واختبرت الكوة لتحمل ضغط يصل إلى 114ميجاباسكال، وذلك في غرفة ضغط تابعة لجامعة بنسلفانيا، وتوجد الكوة في قاعدة الغواصة الرأسية التي تزن نحو 11.8 طن. وتتحرك الغواصة عمودياً في الماء. وتحمل أثقالاً يبلغ وزنها نحو 500 كيلوجرام، لتساعدها على الغطس، وحين تريد الارتفاع إلى السطح تتخلص الغواصة من تلك الأثقال، وفي حال عدم القدرة على التخلص من تلك الأثقال في الأعماق وتعرضها لخطر البقاء في قاع المحيط، هناك نظام ثان بديل يعمل للقيام بالتخلص منها بطريقة التآكل الجلفاني، وهي عملية ذوبان في الماء المالح، وتستغرق هذه العماية وقتا محددا، لكنها في النهاية تسمح للغواصة بالطفو والوصول إلى السطح آليا. ويبلغ وزن ديب سي تشلنجر، أقل من وزن الغواصة تريست التي سبقتها بخمسين سنة بنحو العُشر، وهي مزودة بأجهزة علمية أكثر جودة وحديثة، ويمكنها الهبوط إلى قاع المحيط بسرعة أكبر. وفي أواخر شهر يناير 2012، قام كاميرون باختبار الغواصة لمدة ثلاث ساعات، قريباً من السطح في القاعدة البحرية بسيدني أستراليا، وفي 21 فبراير/شباط 2012 بدأت محاولة للغطس بالغواصة إلى عمق 1000 متر، ولكن تم توقيف المحاولة بسبب مشاكل ظهرت في الكاميرات، وفي نظام المحافظة على الحياة، وثم قام كاميرون بالغطس بالغواصة بالقرب من نيو بريطان أيلاند يوم 23 فبراير 2012 إلى عمق 991 متراً، ليقابل غواصة أخرى صفراء، وهي غواصة تعمل عن بعد Remotely operated underwater vehicle، حيث تقوم بتوجيهها سفينة موجودة في المحيط، واستطاع كاميرون الغطس بالغواصة مرة أخرى يوم 28 فبراير 2012، واستغرقت اختباراته نحو 7 ساعات، واستطاع الوصول إلى عمق 3700 متر، وصاحب تلك الاختبارات تقطع في عمل نظام الطاقة، كما واجهته تيارات مائية غير متوقعة، مما أجبره على إنهاء الاختبار في هذا اليوم وفي 4 مارس 2012، قام كاميرون بإحراز رقم قياسي بالغطس بالغواصة إلى عمق 7260 متراً، وتوقف قبل الوصول إلى قاع خندق نيو بريطان، حيث واجه خللاً في عمل محركات الدفع الرأسي، فعاد إلى السطح. وبعد ذلك بعدة أيام، وبعد حل مشكلات المحركات استطاع كاميرون الغطس إلى قاع خندق نيو بريطان، الذي يقع على عمق 8221 متراً، وعلى هذا العمق توجد مساحات مستوية منها رواسب في قاع المحيط و الأنيمونات و قنديل البحر، وهي أحياء هلامية، وتوجد أيضاً بعض الكائنات الأخرى، عند التقاء القاع المنبسط للبحر مع جدران الخندق.

مشاركة :