طوعا؛ أحجم عن الكتابة، وعن المتابعة أيضا، وللذين لا يعلمون يمكنني القول بأنني وخلال حياتي كلها، لم أستمع لخطاب وبيان «أبو عبيدة»، سوى أمس الأول، وسمعته يقول في النهاية «إنه لجهاد نصر أو استشهاد»، وهما كلمتان تكفيان عن كل البيانات والحكايات، حتى لو قلناهما من فوق الحلق، فهما تكفيان سببا لرعبهم، وكذلك تكفيان في قانونهم لحرق كل أمة المليار و»نص»... ما نفع الكلام والدم المغدور المهدور يخرج فصيحا، والموقف الدولي وبكل دناءة يمضي قبيحا، والعودة للقانون والمنطق والإنسانية قرار يأتي في حسابات المجرم ترجيحا ؟! ..هل ثمة ما هو أصدق وأشد فظاعة من قتل الناس والأطفال ظلما أمام عينيك؟ ما نفع الكلام والتنظير والخيال والتفكير، حين يكون المبتدأ جريمة «فظيعة»، مدانة حتى في قانون الحيوانات، والخبر صمتا أفدح، بعد بلاغة صمت القبور التي أصبحت حتى هي، تضيق على أجساد أهل غزة لتعبقها بالمسك؟. ما نفع الكتابة بعد أن عجزت عن الوصف، ولا يقرؤها احد، فحبرها قاصر أمام حمرة دم الأبرياء، وتقطّع أوتار صوتهم من شدّة الصراخ، فصرخة واحدة من طفلة أو طفل أكثر فصاحة وبلاغة وإقناعا للكائنات الميتة والحيّة من كل ما نكتب أو نقرأ، فلا عاطفة تجاري وحشية الجريمة، ولا عقل يستوعب قصر ذات اليد والنظر والبصر..إنني في شك بأن الأجساد التي تراقب مخلوقة من لحم ودم، فهي غدت مجرد تماثيل من شمع، اختفت قسمات وجوهها وذابت بسبب وهج نار الجريمة، فغدت الوجوه بلا ملامح ولا غضب ولا انفعال من أي نوع.. فما نفع كل الانفعالات إن لم تقدم لقمة لطفل جائع لا محالة مقتول، بعد جوع وعطش ومطاردة تقوم بها صواريخ وطائرات، لا ترتوي رغم كل هذا الولوغ بدم البشر الأبرياء.. كيف، وما الذي يمكننا أن نكتبه، حين تتنامى الجراثيم حول الجرح، وتقرر أن تلهبه، ليستطيل، ويشمل أجسادا أخرى؟.. فكل الذي نقوم به في هذه البلاد، شعبا صابرا، وحكومة مبتلاة، وملكا صامدا، يصبح في نظرهم مجرد سلعة للمزايدة والتشكيك بنا وبما نفعل ونقول؟! .. قال أمس الوزير مهند بأننا قدمنا خبزنا ودواءنا لفلسطين.. وكما كنا قبل أمس واليوم، نقدم دماءنا وكل مستقبلنا من أجل الشقيقة الذبيحة فلسطين، هل لدينا شيء آخر يمكننا تقديمه ولم نفعل؟ .. صوتنا في هذه البلاد لم يتوقف يوما نصرة لشعب نعتبره شعبنا ما دامت عنده قضية عادلة، نعتبرها قضيتنا نحن حتى يتحقق الحل العادل، وبلاد سليبة هي من حقنا قبل غيرنا، حتى نملها ونحلها وغربانها وصقورها شركاء لنا في المصير.. دعونا نكتفي بالمبتدأ، وندينه، ونحتفظ بنسخة من آلام البشر، ولا نشارك في الخبر، ونجمع حبات الدواء والقمح، ودموع الأمهات والآباء وما بقي من أعمار الأطفال والشباب، ونقدمها لمن تبقى من أطفال هناك، فإن الطائرات والصواريخ ما زالت تتذاكى في البحث عنهم، والكون كله يحكم قبضته على رقابهم، فلا ماء ولا غذاء ولا هواء أو دواء.. وهم ما زالوا يقولون «الحمد لله»، ويقولون «كله يهون»، وقريبا سيجوعون حتى يموتون في سبيل الأقصى وفلسطين.. كتبتم أو لم تكتبوا، تكلمتم أو اخترتم مزيدا من الصمت، أبصرتم ما فعله ويفعله الأردن أم تعاميتم، فهمتم حدود ما يمكننا فعله أو لم تتفهموا، فلا معادلة ولا قانون يدعي المنطق، ويغفل في الوقت نفسه عن ارتباط مصير الأردن بمصير فلسطين.. لن نضيف غير هذه الحروف، لأننا لا يمكن أن نكتب إلا خيرا في هذا الظرف أو في غيره، أو نلتحق في ركب الصامدين صمتا، وهذا ما يمكن كتابته اليوم، لأننا في بلد محفوف بكل المخاطر، ومستمر في التقدم صامدا على ثوابته تجاه فلسطين.. وما زال يسير فهو ليس خيارا بل مصير. الدستور
مشاركة :