يُعد التضخم من التحديات الحقيقية التي تواجه اقتصاد أي دولة، ويستدعي تدخلا لمعالجته حتى لا يستشري ويؤثر على القدرة الشرائية للأفراد، ومن ثم ينتهي به المطاف الى التأثير على اقتصاد الدولة ككل، وتضطر الدولة مرغمة إلى دفع فاتورة ذلك بشكل أو بآخر، سواء بسياسات نقدية ومالية متشددة تؤدي الى هبوط أو ركود اقتصادي، أو بسياسة دعوم تخفف من حدة التضخم على حساب مالية الدولة. في البداية، نجد أن مشكلة الغلاء ليست حديثة، بل هي قديمة، وقد حدثت ولا تزال تحدث، وبما أن هذه المعضلة أصبحت متداولة بكثرة أخيرا، فإنّ من المهم استعراض مسبباتها في الكويت بشكل عام وخاص. فبشكل عام، يُعدّ النمو المرتفع جدا، والاحتكار، وارتفاع تكلفة انتاج سلعة معيّنة نتيجة لأسباب غير اعتيادية كالحروب والكوارث، وتخفيض العملة من قبل الدولة، من أهم أسباب التضخم والزيادة المُبالغ فيها بالأسعار. إلا أنه في الكويت أصبح واضحا وجليّا أن السبب الرئيسي هو الاحتكار، أما الأسباب الأخرى المطروحة من قبل البعض، فهي باعتقادي أسباب ثانوية، بل وبعضها غير منطقي. فالاحتكار موجود منذ القِدم في الكويت، وكان ولا يزال محميا بفعل القانون، إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر. ونقصد بشكل مباشر وجود اشتراطات ومتطلبات معقّدة لدخول منافسين جدد، كما في قانون التجارة الكويتي رقم 68 لعام 1980 بالمواد 23,24,60، على الرغم مما جاء في قانون هيئة تشجيع الاستثمار المباشر، وتحديدا مادة 12 لقانون 116 لعام 2013. كذلك وجود قوانين داعمة بشكل مباشر للاحتكار من خلال استثناءات متروكة لتقدير الجهات المعنيّة، كما هي الحال بقانون حماية المنافسة رقم 72 لعام 2020، وتحديدا مادة 9، حيث تنص على أن «للمجلس وفقا للشروط والضوابط التي يحددها وبناء على طلب ذوي الشأن، أن يسمح ببعض الاتفاقات أو التصرفات أو الأعمال أو الممارسات المنسـقة الواردة بالمواد 6,7، 8، من هـذا القانون، والتي من شأنها أن تحد من حرية المنافسة، شريطة ما يلي: 1 - قيام الأشخاص المعنيين بإخطار الجهاز بهذه الاتفاقات أو التصرفات أو الأعمال أو الممارسات المنسقة مسبقا، وفق النموذج المعد لهذا الغرض. 2 - التأكد من أن هذه الاتفاقات أو التصرفات أو الأعمال أو الممارسات المنسقة: أ. سـوف تؤدي إلى تعزيز التنمية الاقتصادية أو تحسين الكفاءة أو الجـدوى الفنيـة، أو السـلامة المالية، أو أنشـطة البحـث وتطويـر نظـم الإنتـاج أو التوزيـع للمنتجـات، أو الحفـاظ عليهـا أو منـع تدهورهـا. ب. صممـت بشـكل محـدد، وتشـمل الضمانـات المناسـبة للحـد مـن تأثيرهـا الضـار بالمنافسـة إلـى أدنـى حـد ممكـن. ج. مـن المرجّـح أن تثمـر منافـع اقتصاديـة تفـوق الأعباء الاقتصادية الناشـئة عـن أي تقيـيد للمنافسـة، وتحقـق فوائـد واضحـة للمسـتهلكين تفـوق الأعبـاء التـي يتكبدونهـا. 3 - قيام الأشخاص المعنيين بإخطار الجهاز بأي تعديل يطرأ على الاتفاقات، أو التصرفات أو الأعمال التي سبق الحصول على استثناء بشأنها. وتحــدد اللائحــة التنفيذيــة المســتندات المطلــوب إرفاقهــا ومــدد الإخطــارات والإجــراءات. أما حماية الاحتكار بشكل غير مباشر، فنقصد بها عدم التدخل لسنّ قوانين تعالج التحكم في قطاعات معيّنة من قبل محتكر أو قلة احتكارية، وغضّ النظر عن ممارسات احتكارية واضحة للمواطن البسيط، فضلا عن جهات يُفترض بها أن تكون رقابية، ولديها أجهزة متخصصة في الإشراف والرقابة كوزارة التجارة، وبالأخص جهاز حماية المنافسة التابع لها. ومن الأمثلة على هذه الممارسات المسكوت عنها وجود اتفاق ضمني على التحكم بالأسعار في بعض القطاعات، كذلك نجد عدة سلع ظاهريا لها أكثر من موزع، ولكن في حقيقة الأمر هنالك مورد واحد هو المتحكم بالأسعار، ويعطي انطباعا عاما مزيفا بأن السوق غير محتكر. أما تبرير الارتفاع من البعض بأنه نتيجة لاستيراد التضخم، فإني أعتقد أنه مُبالغ فيه كمبرر، حيث إن أغلب دول الخليج هي أيضا مستوردة لمعظم سلعها، ورغم ذلك الأسعار فيها أقل من الكويت، أو في نفس المستوى السعري، رغم عدم وجود نظام ضريبي، كما هي الحال في بقية دول الخليج. كذلك تبرير ذلك بوفرة مالية ناتجة عن صرف البدل النقدي للإجازات، كما جاء في تقرير إدارة التنمية الاقتصادية بالأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، أعتقد أنه تبرير مخالف للواقع، فأجور موظفي القطاع العام لم تتم مراجعتها منذ أكثر من عقد، ومع ذلك فالتضخم ملموس منذ سنوات عدة حتى قبل الجائحة عام 2020. وبالتالي، لا شك في أن ترسيخ ودعم مثل هذة البيئة الاحتكارية له آثار سلبية على السوق تؤدي الى التحكم في الأسعار دونما أي اعتبار لظروف السوق، وعليه يحمل المستهلك أي انخفاض في أرباح الشركة ناتج في الغالب عن أسباب أخرى من خلال زيادات غير مبررة في الأسعار. وكذلك من الآثار السلبية للاحتكار جودة متدنية للسلع والخدمات لغياب حافز التطوير والإبداع في ظل ضمان الحصة العظمى من السوق. في الختام، نؤكد أن عدم معالجة السبب الحقيقي للتضخم سيزيد من تعقيد المشكلة ويرفع من تكلفتها مستقبلا على الدولة، والحلول المطروحة كزيادة الرواتب أو التدخل المباشر في السوق هي حلول غير منطقية. فالزيادة في ظل الاحتكار لن تؤدي إلا الى تضخّم أعلى، باعتبار أن الهدف هو تعزيز القوة الشرائية للمواطن، وليس الزيادة في حد ذاتها، فهي مجرد وسيلة، لكنها وسيلة برأيي خاطئة في ظل بيئة احتكارية أو شبه احتكارية، والتدخل المباشر في السوق مخالف لأبسط مبادئ السوق الحر، والذي تطرحه الكويت كمنهجية ومبدأ تستند إليه جنبا الى جنب مع تطبيق مبادئ الحوكمة في سبيل الانتقال من اقتصاد ناشئ الى متقدم. فالحل، باختصار، هو في تحرير السوق من القيود القانونية المعززة للاحتكار، إضافة الى مراجعة مواد قانون جهاز حماية المنافسة المذكورة أعلاه من أجل مزيد من تشجيع المنافسة، ومن ثم تأتي الزيادة العادلة في الرواتب من أجل مواكبة التضخم الطبيعي وغير الناتج عن الاحتكار وما شابه.
مشاركة :