إذا كان الأديب يتميّز بموهبةٍ تُتيح له استعادة التجربة التي عاناها، والتعبير عنها بصدق، فهل يكفي هذا كي يغدو التعبير الصادق إبداعاً فنيّاً؟ الحقّ أن موهبة الإبداع الفنيّ تتمثّل، وعلى وجه الدِقّة، في ألا يعكس الأدب مُعطيات الحياة وحسب، بل أن يتجاوزها ويُعيد تكوينها، كما يقول الشاعر الفرنسي «بودلير»: «مِن الطين الذي عجنتُه، طلع الذهب». أو كما يقول الشاعر الإنجليزي «إيليوت»: «ليست عواطفنا محوَر القيمة الفنيّة، وإنما المحوَر هو الطريقة التي نُنسّق بها تلك العواطف، ونُعبّر عنها». وإن يكُن بعض الشُعراء الجاهليّين قد صرّح على صعيد عمليّة الإبداع الشِعري، بصدور الشِعر عن ذوق الحياة والعِلم بها، كقول الشاعر «زُهير بن أبي سُلمى»: وما الحربُ إلا ما علِمتُم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ فقد كان السائد لديهم أن الشِعر يصدر عن وحيٍ، أو عن إلهام شياطين تسكُن في وادي «عبقر»، ومما قيل في هذا الصدد: وقافيةٍ عجّتْ بليلٍ رزيّةٍ تلقّيتُ من جوّ السماء نُزولها غير أن ما ينبغي أن نتوقّف عنده، هو نظرة الشاعر «امرئ القيس» إلى الشِعر، وعمليّة إبداعه، فهو يقول: تُخيّرني الجِنّ أشعارها فما شِئتُ مِن شِعرهنّ اصطفيت ونفهم من هذا القول، أن «امرأ القيس» كان يرى في الشِعر فنّاً يصطفي فيه الشاعر ويختار ممّا تُخبر به الجِنّ. وقد نفهم بالجِنّ، نحنُ اليوم، ما يُصيب الشاعر بحالةٍ من عدم الهدوء والاضطراب، لا تستقّر حتى يقول ما لديه. و»امرؤٍ القيس» ما كان يقبل كلّ ما تؤتيه هذه الحالة وإنما يختار منه، مُمارساً عمليّة نقدٍ تتمثّل في الاختيار والتهذيب والتجويد وإقامة البناء، فتتمثّل صناعة فنيّة. وفي العصر الحديث، نجد بين الشُعراء المحدثين من يقول بنُفوذٍ غير مرئي لقِوىً تُلهِم الشِعر، فنقرأ للشاعر الإنجليزي «شيلي» مثلاً، قوله: «العقل في ساعة الإبداع فحمٌ خابئ، يخضع لنُفوذٍ غير مرئي، كرياحٍ غير مُستقرّة، توقِظه للحظة أشواقٍ مؤقّتة». ويقول الشاعر اللبناني «خليل حاوي»: «الشاعر يقع دائماً تحت رحمة ما يُفتح عليه، وقد لا يُفتح أحياناً، ولكني عندما أعود إلى شِعري، أرى أن أفضل ما فيه هو ما صدر صدوراً تلقائيّاً، وشارك فيه اللّاوعي الوعي، وكان للعقل الإرادي نصيبه من النشاط». ويتّفق مُعظم الأدباء على أن الأديب المُبدع يمتلك قُدرة اسمها الحدس أو الرؤيا، تُمكّنه من كشف أسرار الوجود والتعبير عنها. والحدس يُنمّى، فضلاً عن الموهبة، بثقافة عميقة شُموليّة. وممّا يجب قوله هنا، هو أن المُبدعين لا يتّفقون حول أهميّة هذه المرحلة، في حين يُبالغ بعضهم في أهميّتها، فيقول بعضهم: إنه لا وجود لأيّة شرارة جمال، إلا بعد عُمر من التحضير والكَدّ». فيما يُهوّن بعضهم الآخر من هذه الأهميّة، فيقول: «نحن لا نصنع الشِعر في كلمات، نحن إنّما نُسجّل بعض لحظاته، فالطبيعة تنفجر فينا، ولا وقت لدينا لنُجفّف الشِعر تحت شمس الثقافة المُجرّدة!».
مشاركة :