لن تنعم مجتمعاتنا بالهدوء والاستقرار والسعادة، ولن تحظى بالتطور والنماء والرفاه، إلا بإعادة الاعتبار للعقل، بعيداً عن الإقصاء والتهميش والأحادية والطائفية والقبلية وكل المفردات الكريهة التي يعج بها قاموس التخلف العربي بهذه القناعة الشخصية، احتفلت قبل أربعة أيام وحيداً ب "رأس السنة" الميلادية التي تُلاحقها العيون وترصدها العقول، وسط ركام هائل من الأرقام والأحداث والمواقف والكوارث والانفجارات والضحايا والتحولات والأزمات التي حفل بها العام المنصرم ، سواء على الصعيد العالمي أو الإقليمي أو الوطني، وأيضاً الشخصي. يُعتبر العام الماضي، بلا شك من أكثر الأعوام سخونة وبشاعة وغرابة، بل ومؤشراً خطيراً على تنامي هذا الاتجاه الدراماتيكي المثير في مسيرة العالم العربي، بل والعالم بأسره. قد تبدو الكتابة عن عام استثنائي كهذا، ضرباً من المحال، بل ومن الجنون، لأنه العام الأسوأ على الإطلاق، وقد تكون هذه متلازمة تتكرر كل عام، إذ كانت الأعوام السابقة تُبشر بهذه النتيجة الكارثية باستمرار. بالنسبة لي، لن أخوض في التفاصيل، لأن الشيطان يكمن فيها، ولأسباب أخرى أيضاً، لا أجدني ميالاً لذكرها. أثناء رصدي للكثير من الأحداث والأزمات والقضايا والملفات التي مر بها العالم العربي تحديداً خلال العام الماضي، لمست ظاهرة عربية بامتياز، قد تكون السبب الرئيسي الذي تتفرع منه بقية الأسباب التي أدت لهذا الضياع العربي. "موت العقل العربي"، قد تكون هذه الظاهرة/ الحالة والتي تجلت بوضوح ودقة وفظاعة خلال العام الماضي، هي الإشكالية المعقدة التي أفرزت كل هذه المحن والفتن والكوارث التي تتعرض لها غالبية الدول والمجتمعات العربية، وذلك في مشهد لا سابق له على الإطلاق، إذ تتمدد الأزمة العربية باتجاهات ومعطيات وتداعيات، أقل ما يُقال عنها كارثية ومأساوية، وتُنذر بدخول هذا العالم العربي المضطرب أصلاً في نفق مظلم لا نهاية له، وفي اتون صراعات واحترابات، قد تتسبب في تشرذمه وانقسامه. نعم، إن موت العقل العربي هو المتسبب الحقيقي في كل هذا الدمار والخراب والموت الذي أصبح العنوان الأبرز لهذا العالم العربي الذي لم تنعم دوله ومجتمعاته وشعوبه بحياة هادئة وطبيعية وممتعة. في العام الماضي فقط، سقط مئات الآلاف من الضحايا، وتشرد الملايين، ودمرت مدن بأكملها، وتشوه العقل والقلب والفكر العربي، ونُسفت الآمال والأحلام والطموحات. فقط، يوماً، كانت كافية جداً لكل هذا النزف الإنساني والمادي والنفسي والاجتماعي، بل وعلى كل الصعد والمستويات. لماذا أصبحت كل الصور العربية باهتة وحزينة وكئيبة؟. لم نعد نتداول كما كنا نفعل سابقاً تلك الصور الجميلة التي تُسجل لحظات الفرح والسعادة والنجاح، وضحكات الأطفال البريئة، وحفلات التخرج والتفوق من المدارس والجامعات، والفعاليات والمهرجانات والأمسيات، وتدشين المشاريع والإنجازات وغيرها من الصور التي تضج بالحياة. في عام واحد فقط، غص ذلك الالبوم الكبير بصور البكاء والصراخ والضياع، ومشاهد الدمار والخراب والقتال، ولقطات الأشلاء المبعثرة والدماء. ياالله، لم نعد نتذكر تلك الألوان الجميلة المترعة بالحب والأمل والفرح والسعادة والطموح والتطلع. لقد بهتت كل تلك الألوان الزاهية الجميلة، ولم نعد نرى إلا اللون الأحمر القاني - لون الدم - الذي أصبح هو سيد الألوان في هذا العام، بل ومنذ عدة أعوام. نعم، إنه موت العقل العربي الذي أفرز كل تلك الأزمات والاحتقانات والصراعات. نعيش الألفية الثالثة، ولكن بعقلية الماضي وفكر الإقصاء وهيمنة التراث. نستدعي تلك الأحقاد والضغائن والخلافات التي رحل أصحابها وطُمست معالمها، ولكنها للأسف الشديد، مازالت جاثمة على صدر زمننا الحالي، نُعاني من تبعاتها وآثارها وتداعياتها. حقاً أجاد الشاعر العربي - وهل نُجيد غير ذلك؟ - حينما وصف حالنا منذ قرون: قد ينبت العشب على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا إن هذه الظاهرة العربية - موت العقل - ليست مستجدة أو طارئة، ولكنها مستقرة في وجدان وفكر التركيبة الذهنية العربية، ولعل ما حدث لابن رشد قبل قرون طويلة يؤكد عمق تجذّر هذه الظاهرة في بنية الفكر العربي. ابن رشد ( - م)، وهو عميد الفلسفة العقلية على مر العصور، ويحظى بتقدير واحترام وإعجاب الأوساط الفكرية والثقافية الغربية منذ القرن الثاني عشر وحتى الآن، تُحرق كتبه بأمر الخليفة المنصور، ويُتهم بالكفر والإلحاد والزندقة، ويُنفى ليموت وحيداً في منفاه. فقط، لأنه أراد أن يحرر العقل العربي من بعض الأفكار والمعتقدات والخزعبلات. ابن رشد ومحمد عابد الجابري ( - م) ومحمد اركون ( - م)، وغيرهم الكثير ممن توقفوا عند ظاهرة موت العقل العربي. إن تحرير العقل العربي من كل ذلك الإرث القديم المسيطر تقريباً على حركة وتطور المجتمعات العربية، هو البداية الصحيحة لمقاربة الأزمة الكبرى في بنية الفكر العربي الذي تسبب في إجهاض كل محاولات النهضة العربية الحديثة. لن تنعم مجتمعاتنا بالهدوء والاستقرار والسعادة، ولن تحظى بالتطور والنماء والرفاه، إلا بإعادة الاعتبار للعقل، بعيداً عن الإقصاء والتهميش والأحادية والطائفية والقبلية وكل المفردات الكريهة التي يعج بها قاموس التخلف العربي. هذا هو الحدث الأبرز بالنسبة لي، فماذا عنك عزيزي القارئ؟
مشاركة :