"مقبرة الغرباء" رواية تونسية عن جحيم الضفة الأخرى | | صحيفة العرب

  • 12/1/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

مقبرة الغرباء، عندما يتحول الوطن إلى مجرد جهة لإسناد بطاقة هوية، ومنطلق إلى الضفة الأخرى التي نعبر إليها، وهي في كل ذلك عنوان رواية جديدة للكاتب التونسي مختار الورغمي أصيل مدينة مدنين (جنوب تونس) والذي يشتغل مساعدا بيداغوجيا للغة الفرنسية بسيدي مخلوف وفي رصيده رواية أولى سنة 2018 عنوانها “أحاديث التيه” ثم “رواحيل” سنة 2019 إلى جانب مقالات متعددة في الشأن العام وعدة نصوص منشورة بمواقع عربية. واختار الكاتب في روايته الجديدة، الصادرة عن دار الفردوس للنشر والتوزيع، موضوع الهجرة غير النظامية أو ما يعرف في تونس بـ”الحرقة” باعتبارها ظاهرة قديمة متجددة، وقد انطلق في كتابتها سنة 2020 لتأخذ منه جهد 3 سنوات كانت كافية لتشخص واقع معين وتكشف خباياه في 195 صفحة توزعت بين 7 فصول اعتمد فيها لغة جمعت بين الفصحى والعامية بما فيها من شجاعة وقدرة على التعبير والتبليغ. الكاتب عمل على حسن تركيب اللوحات السردية وكأنه في عملية مونتاج لفيلم سينمائي وهو يسرد مأساة أبطاله الكاتب عمل على حسن تركيب اللوحات السردية وكأنه في عملية مونتاج لفيلم سينمائي وهو يسرد مأساة أبطاله وقال الكاتب عن اختيار عنوان روايته “مقبرة الغرباء” إنها لا تحيل إلى مقبرة الغرباء بمدينة جرجيس، وهي مقبرة حقيقية مخصصة لدفن من يلفظهم الشاطئ من المهاجرين المجهولين، أو إلى فاجعة ما يعرف بـ18/ 18، إذ إن اختياره العنوان سبق الحادثة حتى وإن هي تطرح ظاهرة الهجرة غير النظامية التي يعيشها مجتمعنا منذ سنوات وما زال يعيش فواجعها إلى اليوم. وعمل الورغمي على حسن تركيب اللوحات السردية وكأنه في عملية مونتاج لفيلم سينمائي حيث يتجاوز الماضي والحاضر والهنا والهناك في نفس المشهد دون أن يشعر القارئ بتنافر بين العناصر، مضمنا بين الحين والآخر خطابات شعرية بأنواع مختلفة فصيح وعامي وغنائي سواء في التصديرات الواردة في كل فصل أو في المتن الروائي وفق ما لاحظه الأكاديمي مسعود لشيهب، أستاذ الأدب العربي والنقد الحديث بجامعة قابس في لقاء تقديمي للرواية. وتسرد الرواية قصة أربعة شبان آمنوا بالإنسان الحر الكريم وضاقت بهم السبل في وطن لم يمنحهم إلا بطاقة هوية وكثيرا من التهميش والألم والمعاناة، بعثهم الراوي في واد القمح واختار شخصيات متخيلة لكن قريبة من الواقع سماها بغير أسمائها الأصلية بل منحها كنيات مقصودة ومنتقاة لصورة بلاغية أكثر حسب قول الكاتب، فما كان منهم إلا أن يركبوا البحر وقوارب الموت في محاولة للوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط التي يصورها الراوي لا كجنة موعودة بل مقبرة للغرباء. يتمعن الورغمي في روايته في تصوير رحلة الإبحار انطلاقا من شهادات واقعية جمعها من مهاجرين غير نظاميين هاجروا ثم عادوا، وآخرين هاجروا ونجحوا في الوصول، وشهادات رسمية من جهات أمنية إلى جانب مغامرته بالتحول إلى أماكن تنطلق منها رحلة “الحرقة”، وتحبك أطوارها، وهو في كل ذلك لم يسع لأن يكون مصورا فوتوغرافيا ينقل الواقع بقدر ما جعل لنفسه هدفا تصوير معاناة الناس إيمانا منه بأن الكتابة ليست ممارسة هواية فقط بل هي مشروع والكاتب حامل رسالة. انتهت رحلة الإبحار بموت “ولد الحفيانة” (أحد الأبطال) في البحر وتتواصل رحلة بقية الشبان الثلاثة بين معاناة مراكز الإيقاف ورحلة الرغبة في الذهاب إلى فرنسا والبحث عن العمل، لتختلف تجارب كل شاب منهم بين من تزوج من أجنبية وعاش تجربة حب وبين من سقط في مستنقع المخدرات وغيرها، وكلما يظن القارئ أن العيش قد طاب لشخصية ما حتى تحل الفاجعة بها. رحلة البحث عن بدائل محلية رحلة البحث عن بدائل محلية يموت “كماتشو” شر ميتة على يد صهره وصديقه بعد أن ساءت علاقته بزوجته الإيطالية، ويتورط “الزقية” في العمل مع عصابة المخدرات دون أن يعلم فيموت في عملية مطاردة. أما “البرني” فيقع ترحيله إلى إحدى المدن التونسية غير قريته الأصلية بعد انتشار وباء كورونا، ثم يموت وحيدا غريبا. تشابهت النهايات مثلما تشابهت بدايات هؤلاء الأبطال من الرعب إلى الرعب ومن مقبرة وادي القمح حيث يعيشون أمواتا دون هدف في الحياة إلى الموت في مقابر شتى من البحر إلى ميلانو ونابولي وصولا إلى مقبرة بإحدى المدن التونسية، إلا أن “مقبرة الغرباء” هي عند الكاتب تلك الضفة الأخرى التي يتبين أن حقوق الإنسان والحرية فيها ليست سوى مجرد شعارات وكذبة أحيانا من خلال النظر إلى المهاجر كغريب ومن خلال ما يعانيه من أشكال تمييز وتحيل وابتزاز وهضم لكل حقوقه. يطرح مختار الورغمي في روايته عدة قضايا أخرى ارتبطت بالهجرة غير النظامية منها الزواج من أجنبيات بفارق عمر كبير جدا، فصورها بكل عمق وطرح مشكلة الاستغلال في العمل وتدخل الغريب لشراء الأرض فيصبح صاحب الأرض أجيرا ومعه تنتفي العلاقة مع الأرض فيبرز تعرضه للاستغلال. وتتضمن الرواية عودا على بدء، حيث انطلقت من النهاية بعودة البرني من فرنسا وترحيله إلى منطقة تونسية ليموت بها دون أن يفلح في تسديد دين أمه التي باعت القرط لأجله، فيكتب وصية “أرجعوا إلى أمي قرطها لأنه دين في رقبتي”، وتكتمل بعودة زوجة البرني وصديقه حاملين في ذهنيهما أنه حي وأنهما سيعيدان لأمه قرطها في رحلة عودة من خلال مقطع يدعو الركاب إلى التوجه نحو الطائرة في صورة للإقلاع وفتح باب للأمل والعودة إلى الوطن، فهذه الأرض هي التي تليق بنا وليس غيرها، وهي الرسالة التي حرص على تمريرها الكاتب على لسان إحدى شخصيات عمله الروائي.

مشاركة :