حدثني ليلاً : أنا الآن في حيفا. أحدثك من أرض الحلم. فوجئت هل هو في أرض الحلم أم في حلم الأرض. كل ما أعرفه أني شعرت أني في منتصف حلم. هل أصدق أن صديقي فعلها وعاد، أقصد زار فلسطين. أفطرنا في الناصرة وتغدينا في يافا وها نحن نمضي الليل في حيفا وغداً إلى يافا. قلت: يافا.. يافا ؟! قال نعم يافا وسأذهب إلى مسجد حسن بيك وشارع اسكندر عوض، وأمشي في حاراتها القديمة والشوارع المبلطة منذ مئات السنين، وأشرب الشاي على كراسي القش أمام البيوت العتيقة. ثمة بيوت تحرس الأمكنة وعرب بقوا هناك يحرسون الحلم. سيأخذوني إلى البحر أملأ رئتي الجائعتين منذ هاجرنا قبل ثمان وستين سنة، لم أكن قد ولدت بعد لكن أمي وأبي أورثاني رئتين ناقصتين لهواء بحر يافا وحيفا وعكا. وهل ستأكل السمك الطازج في مطعم على الشط؟ قال: لا سأتعلم من السمك كيف يبقى حياً رغم كل هذا الموت الذي قتل فلسطين على الخريطة وأسأل الصيادين كم مرة رتقوا شباكهم منذ اصطاد الصهاينة السمكة الكبرى. كنت أقول لابنتي، ونحن على جبال السلط نرى عن بعد أضواء أريحا وجبال الخليل والقدس، هل تعلمين كم من الوقت يلزمنا لنلمس الحلم الذي عاش مع جدك ومعي منذ النكبة 1948؟ يلزمنا يا ابنتي ثلاث ساعات بالسيارة وثلاثة حروب خسرناها وخسرنا فلسطين بجدارة!. المحزن المفرح أن الفلسطينيين فرّقهم الاحتلال والاحتلال نفسه جمعهم. ففي الفترة من 1948-1967 كان الفلسطينيون الذين بقوا في فلسطين، واضطروا أن يحملوا الجنسية الإسرائيلية محرومين من لقاء أهلهم في الضفة الغربية وفي غزة، والعكس صحيح، فالذين إجبروا على مغادرة مدنهم وقراهم نتيجة النكبة أو ما سمي إعلان إسرائيل إلى الضفة أو الأردن وسوريا ولبنان ومصر وأرجاء العالم ليبدؤوا حياة الشتات، ظلوا محرومين من رؤية مدنهم وأهلهم وقراهم. المفارقة المحزنة أيضاً أنه بعد معاهدات ما سمي بالسلام مع إسرائيل أصبح بإمكان الفلسطيني في الشتات أن يزور بيت أجداده، وأن يستنشق هواء البحر الأبيض المتوسط وبحيرة طبريا ونهر العوجا، ويكحّل عينيه بأشجار جبل الكرمل. لكن.. عليه أيضاً أن يغادر مع انتهاء تاريخ تصريح الزيارة من سلطات الاحتلال الإسرائيلي. هل ثمة كوميديا أكثر سواداً من أن تكون زائراً لبلدك لا عائداً إليها ولا مقيماً، وعليك أن تغادرها بأمر من يحتلها؟!! هل تعرف تاريخ يافا التي ضمها المحتلون إلى تل أبيب عاصمتهم؟. يقول التاريخ: لقد احتفظت مدينة يافا بهذه التسمية منذ نشأتها مع بعض التحريف البسيط دون المساس بمدلول التسمية. والاسم الحالي مُشتق من الاسم الكنعاني للمدينة يافا، التي تعني الجميل أو المنظر الجميل. وتشير الأدلة التاريخية إلى أن جميع تسميات المدينة التي وردت في المصادر القديمة تعبر عن معنى الجمال. ويذكر بعض المؤرخين أن اسم المدينة يُنسب إلى يافث، أحد الأبناء الثلاثة للنبي نوح، والذي قام بإنشاء المدينة بعد نهاية الطوفان. وأقدم تسجيل لاسم يافا جاء باللغة الهيروغليفية، من عهد تحتمس الثالث حيث ورد اسمها يوبا أو يبو. ثم جاء اسم يافا ضمن المدن التي استولى عليها سنحاريب ملك آشور. أما في العهد الهلنستي، فقد ورد الاسم يوبا، وذكرت بعض الأساطير اليونانية القديمة أن هذه التسمية مشتقة من يوبي بنت إله الريح عند الرومان. كما جاء اسم يافا في بردية زينون، وورد اسمها أكثر من مرة في التوراة تحت اسم يافو. وعندما استولى عليها جودفري أثناء الحملة الصليبية الأولى، قام بتحصينها وعمل على صبغها بالصبغة الإفرنجية، وأطلق عليها اسم جاهي. ووردت يافا في بعض كتب التاريخ والجغرافيا العربية في العصور العربية الإسلامية باسمها الحالي. ويطلق أهل يافا على المدينة القديمة اسم البلدة القديمة أو القلعة. بقيت المدينة حتى عام النكبة 1948، تحتفظ باسمها ومدلولها عروس فلسطين حيث تكثر بها وحولها الحدائق، وتحيط بها أشجار البرتقال اليافاوي ذي الشهرة العالمية، والذي كان يُصدر إلى الخارج منذ القرن التاسع للميلاد أو ما قبله. قال لي صديقي ناصر القواسمي، الذي حدثني من حيفا، تحدثنا عنك اليوم أنا وفاتن مصاروة ومحمد وخليل وغيرهم، يعرفونك من كتاباتك ومقالاتك، وكم تمنينا أن تكون معنا. قلت له: يا ناصر لقد توفي أبي المولود في بلدتنا التي لا تبعد سوى ثلاثة كيلو مترات عن بحر يافا دون أن يزور بلدته وبيت أجداده، وحين يسألونه لماذا لا تزورها؟ كان يقول: لا استطيع تحمل رؤية بيتنا وحارتنا ومرتع طفولتي وصباي كزائر، وأن يعطف عليّ محتل بيارتنا بحبات برتقال منها، ونحن الذين كنا نزرع الشجر ونربيه كأبنائنا، نأكل منه ونصدره إلى أوروبا منذ عشرينات القرن الماضي. لن أذهب وسأدع صورة بيتنا وحارتنا وبلدتنا في ذهني كما هي، إن عدت أعود ولا أغادر وإن مت فيوماً ما يعود أبنائي وأحفادي ليقيموا هناك في فلسطين لا إسرائيل ويرحل المحتل. أنا أيضاً أتمنى أن أكون معكم، لكني في منتصف الحلم ومنتصف الواقع، هل أكون واقعياً فأفقد الحلم أم أظل حالماً حتى يتحقق الحلم؟ لا أدري!.
مشاركة :