على مدى خمس سنوات ونصف، كان هنري كيسنجر مستشارًا للأمن القومي الأمريكي ووزيرًا للخارجية في إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، والرئيس جيرالد فورد. وصل الدكتور هنري كيسينجر إلى نيويورك عام 1938 قادمًا من مدينة فويرث الألمانية هربًا من الاضطهاد النازي - كان ذلك قبل هزيمة الرايخ الثالث بأيدي الحلفاء، وتهاوي النازية في ألمانيا - وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1943، وخدم مدة ثلاث سنوات في الجيش الأمريكي، ومن ثم التحق بجامعة هارفارد الشهيرة وحصل على الدكتوراة، وبعد ذلك انضم إلى أعضاء هيئة التدريس في الجامعة، وعند ذلك استقطبته الإدارة الأمريكية وبخاصة إدارتي نيكسون وخلفه جيرالد فورد، حيث أسندت إليه حقيبة وزارة الخارجية، وأدى دورًا دبلوماسيًا محوريًا خلال الحرب الباردة، والانفتاح الدبلوماسي على الصين، والتحالف الأطلسي، والأسلحة الإستراتيجية، والعلاقات بين الشرق والغرب، والعلاقات الأمريكية ـ السوفيتية، واختراق العالم الشيوعي، ومؤتمر الأمن الأوروبي، والعلاقات مع أمريكا اللاتينية، والإستراتيجية الأمريكية في إفريقيا، والسياسة التقليدية في الشرق الأوسط. وقد اعتبر في ذلك الوقت أفضل دبلوماسي أمريكي في القرن الـ20، ومن أبرز السياسيين في التاريخ الأمريكي الحديث، وأصبح حينها صديقًا للزعماء، ويتحدث مع رؤساء العالم، ويفتي في السياسة العالمية، وكانت إسهاماته حجر الزاوية في تطوير السياسة الخارجية الأمريكية. وكانت فلسفته السياسية تقوم على [تفكيك الأزمات الكبرى وإعادة تركيبها بما يناسب الواقع] والبحث عن عالم ليس لديه أجوبة نهائية. هذا هو الجو العام الذي تصاعد فيه الخط البياني للدكتور هنري كيسنجر ولكن ليس لهذه الأسباب أتحدث عنه الآن، وإنما حول مواقفه السياسية والدبلوماسية من القضية الفلسطينية، ففي آخر لقاء له قبل وفاته وبعد أن تداعى جسده تحت ثقل السنوات، فلا بأس حينها من أن يكسب نقطة لصالح حقوق الإسرائيليين داعيًا إلى ردع الفلسطينيين بالقوة، فقد كان على طول تاريخه السياسي كمستشار للأمن القومي الأمريكي ووزيرًا للخارجية يتصرف بانحياز كامل لإسرائيل، وكأنه جزء من الدبلوماسية الإسرائيلية، فقد كان يؤيد بشده القمع الإسرائيلي للفلسطينيين وإدارة الأزمة الفلسطينية- الإسرائيلية وفق الهوى الإسرائيلي، مؤسسًا هذه الرؤية السياسية على أساس هويته اليهودية. وقد بدت هذه الحقيقة واضحة في وزراء الخارجية الأمريكيين ذوي الأصول اليهودية، وأصبحت التوجه الغالب على العقليات السياسية اليهودية الأمريكية، وهذا يعني تأكيد الالتزام بالمضي في الخط السياسي بحسب التصور الذي رسمه الدكتور هنري كيسنجر، والذي يحمل مواقف غير موضوعية ومتحيزة اتجاه إسرائيل، ومتحاملة على الفلسطينيين والتي تلقي بظلالها على واقع القضية الفلسطينية، وذلك عبر سياسات توزيع الأدوار والترويج للشعارات السياسية المغلوطة والمتمثلة [في حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها] وهو شعار روج له كيسنجر في السبعينيات، وقد ازداد الشعار تعمقًا وتجددًا في الفكر السياسي الأمريكي كمرتكز سياسي يوفر لإسرائيل الدعم العسكري والتنسيق السياسي وتكريس سياسة الأمر الواقع رغم تناقض هذا الشعار مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة واليوم يرفع هذا الشعار وزراء خارجية دول الغرب الصناعي، وبمرور الوقت سعت الصهيونية العالمية إلى ترسيخ هذا الشعار في أذهان الغرب، ليصبح من الثوابت السياسية بما يعني بأن الحروب الأسرائيلية ذات طبيعة دفاعية تستهدف حماية الإنسان الإسرائيلي وتحميل الفلسطيني مسؤولية الحروب وما تجره من ويلات، وذلك من خلال آليات الخداع الممنهج في حلقات لا تنتهي من التعبئة والحشد وصناعة كل مبررات الخصومة والعداوة والمناورات السياسية وحبس الإنسان الفلسطيني في ذاته، وتكبيله وإبقائه مدانًا ومتهمًا ولا يقبل منه حتى مجرد الدفاع عن نفسه وأرضه ومهما حاول فإنه سوف يتعرض للإبادة أو التهجير والحصار والعزل والموت والذي نرى واقعه اليوم في غزة والمتمثل في القهر والبطش والموت.. الانفجارات وأفواج جثث الموتى والجرحى التي تنقل إلى المدافن والمستشفيات. فبقدر ما كانت القضية الفلسطينية عادلة وحقيقة فرضت نفسها على الوعي العالمي إلا أنها قوبلت بالتجاهل الكبير والجحود والخداع والتضليل وبذل الوعود مع تأجيل التنفيذ وتعقيد المواقف بدعوى محاولة البحث عن حلول.
مشاركة :