"صمت": لغة مسرحية معاصرة تقارب العنف والتضليل الإعلامي | | صحيفة العرب

  • 12/6/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من رحم التساؤلات الموجهة للذات حول ماهية وجدوى مشروع المسرح السياسي الملتزم بمواجهة التدمير المدروس للأدوات والتفكيك الممنهج للمعاني والهجوم على اللغة كأداة لوصف الواقع الذي نعيش، ولد العمل المسرحي الغنائي “صمت”، الذي كتب نصه وأخرجه الكويتي سليمان البسام، وعرض ضمن فعاليات الدورة الرابعة والشعرين لأيام قرطاج المسرحية. ويحاول البسام، ذو التكوين الفلسفي، في مسرحيته مقاربة أشكال المقاومة المحتملة في وجه العنف غير المسبوق، واستعارة شخصية المفكر والفنان والإنسان عامة الذي يختار الصمت المطلق شكلا سياديا للتعبير. يعود المخرج إلى حدث هو الأخطر في تاريخ لبنان المعاصر، وتحديدا إلى الرابع من أغسطس 2020، حين هز انفجار مرفأ بيروت البلاد، الذي أعلن بعد ذلك أضخم انفجار غير نووي في التاريخ. انفجار خلف تداعيات كارثية، اقتصادية واجتماعية، وأدخل لبنان في انفجارات متوالية في وجه الفساد السياسي والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. جاء هذا الانفجار – كما يصفه المخرج الكويتي – ليكون حلقة العنف الأكبر وأحد “نواتج الدورة المجنونة لعجلة الرأسمالية المتوحشة”، لكنه خلف أيضا لدى البيروتيين اضطراب ما بعد الصدمة. وفي هذا العرض المسرحي الموسيقي، يتمثله المخرج وكأنه خلف “سكوت ما بعد الصدمة”، سكون إرادي دخلته شخصية “صمت” المتخيلة، الحاضرة الغائبة، التي تخاطبها الممثلة والمغنية السورية – الفرنسية حلا عمران، فتصورها في ذهن المتفرج، زميلة لها في الفن، أو جارة، أو أختا أو حبيبة. “صمت”، تتخذ كل الأشكال والأجناس، هي أنا، ونحن، وأنت وهم وهن، هي كل من اختار الصمت للتعبير عن غضبه، عن رفضه للواقع، عن ثورته في وجه الأزمات. في “صمت” تصرخ الممثلة السورية – الفرنسية حلا عمران وتغني، وتوجه سهام النقد الحاد لمتناقضات عدة، تنطلق من مخاطبتها الذاتية لهذا الصمت، نحو فضاءات أرحب، منها العالم الأوسع بمثله وقيمه العليا، ثم تعيدنا على حين غفلة، نحو بيروت وانفجار المرفأ وكأن بيروت هي القلب النابض للإنسانية. فف هي تخاطب “الصمت” فينا بنص فلسفي، لا يترك صغيرة أو كبيرة، شاردة أو واردة، إلا تطرق إليها، فقد مر على الزمنين الماضي والحاضر، ركز على الاختلاف بين الأجيال وأزمات الشباب العربي المعاصر. وبأداء يقترب أكثر نحو الغناء والاستعراض الموسيقي، حولت عمران نصها المسرحي إلى أغنية، تارة ترقصها فرحا وطورا تلطم بها حزنا على الماضي. فهي لم تكتف بترديد أغنياتها، وإنما استعرضت بجسدها محاولة الإيحاء بخبايا حالتها الشعورية، عبر اللطم والصراخ والتأوه. “الفكرة أن تكوني ناقوسا يذكر بهكذا بلدات، من هو الجمهور؟ ما هي الرسالة التي تقدمها؟ أين هي القضية؟” كلها أفكار عبرت عنها الممثلة، مستعيدة أمجاد دول عربية منتجة للفن، وجدت نفسها اليوم منكوبة، تبحث عن أمجادها الضائعة في المسارح الفخمة لـ”بلاد العرب”. النص الذي تؤديه وتغنيه حلا عمران، أثرته شهادات حية لجنرالات وخبراء، استرجعوا انفجار المرفأ وكيف كان بالنسبة إليهم مأساة لا تنسى. “فورا عقلي راح لعملية اغتيال سياسي، معودين نحنا عالاغتيالات السياسية”، هذه إحدى الشهادات، شهادة تختصر عمق الألم الذي يعيشه اللبنانيون منذ عقود، حتى أصبحت الاغتيالات السياسية الخطيرة والانفجارات حدثا اعتياديا لا يفزع. إحدى الشهادات الأخرى، تنطق من حين إلى آخر لتؤثث العمل المسرحي الغنائي، لتكشف زيف التصريحات الإعلامية وتضاربها في ما يتعلق بالانفجار وتداعياته. كل ذلك يتم على امتداد ساعة من الزمن، بمصاحبة موسيقية أثثها علي حوت وعبد قبيسي اللذان يعزفان موسيقى حية على خشبة المسرح، تتنوع نوتاتها بتنوع الآلات. وحضرت المؤثرات الضوئية والبصرية التي صممها الفرنسي الشهير إيريك سواييه، لتعزز من حركة الممثلة وإيماءاتها، وفي اشتغاله المحكم على السينوغرافيا، أضاف سواييه للعرض بعدا واقعيا، حيث أتاح لأفراد من الجمهور مشاركة الخشبة مع الفنانين، فجلسوا على كراس موزعة على الجانبين، ليحولوا العرض المسرحي إلى عرض حداثي يتمرد على أغلب ضوابط المسرح الكلاسيكي. عرض شارك فيه الجمهور غناء واحدة من أشهر أغنيات اللبناني مرسيل خليفة “منتصب القامة أمشي”، تماهت فيه الموسيقى بالمسرح، فلا يعرف الداخل إلى القاعة هل هو بصدد حضور عرض مسرحي أم موسيقي؟ ويقول المخرج سليمان البسام إن هذا العمل يمثل “مرحلة جديدة لمشروع بحثي في التكثيف على صعيد اللغة والاقتصاد بالأدوات المسرحية التي تؤدي إلى تركيز البعد الشعري في مكونات العرض المسرحي، ويشكل حلقة جديدة من حلقات البحث عن التوليفات العربية – العربية لبناء لغة مسرحية معاصرة متجددة”. فف ويوضح أنه “أمام تذويب المفاهيم السياسية لليسار واليمين وبمواجهة التغيرات الجذرية في خارطة التحالفات الجيوسياسية في المنطقة، وبمواجهة العنف المتصاعد والتضليل الإعلامي غير المسبوق، نسأل أنفسنا عن الأشكال المحتملة للمقاومة الفنية، وما هو تعريف المقاومة الفنية اليوم؟ وإن تخلينا عن أدواتنا التقليدية المعهودة (الحدث، السرد، الشخصيات) وتخيلنا تحديدا الفعل المبني على الصمت المطلق كأداة للمقاومة، ماذا سنكتشف؟”. وحول اهتمامه الخاص بالموسيقى، في “صمت”، أوضح البسام أن الموسيقى التي اعتمدها تتراوح بين جماليات الفيلم البوليسي والتجريد الصوتي الذي يعطي المسرح آفاقا مفتوحة، مضيفا أن فريق عمل “صمت” مؤلف من مجموعة موهوبة، تضم حلا عمران، وأعضاء فريق التنين، والموسيقيين علي حوت وعبدالرضا قبيسي (عبد قبيسي) من لبنان، والسينوغراف الفرنسي الشهير إيريك سواييه، ومدير الإنتاج التونسي أسامة الجامعي. سليمان البسام، هذا الكويتي الثائر على المسرح الكلاسيكي، هو مخرج مسرحي وكاتب ولد عام 1972 حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة والأدب الإنجليزي، وتخرج من جامعة أدنبرغ عام 1994. عمل مساعد مخرج في أحد أهم المسارح الفنية في بريطانيا. ثم أسس أول فرقة مسرحية باسم “زوام” عام 1996، وكان أعضاؤها من البريطانيين. وفي “صمت” تعاون الفنان الكويتي مع المسرح التونسي، حيث أقيمت ورشة النص الخاص بالعمل، وهو يواصل من خلالها جهود التعاون المشترك مع تونس، واهتمامه بالمسرح السياسي والمقاومة بالفن، حيث سبق أن أخرج عرضا مسرحيا العام الماضي بعنوان “آي ميديا” وتعاون فيه مع حلا عمران وإيريك سواييه، واستوحاه من أسطورة “ميديا” التراجيدية الإغريقية، ويحكي عن مهاجرة عربية مثقفة مسيّسة، تجد نفسها في خلاف عميق مع العالم من حولها، الأمر الذي يدفعها إلى تصعيد وتيرة العنف بشكل لا عقلاني داخل فضائها العائلي، فتقتل طفليها انتقاما وغضبا وبحثا عن الحرية.

مشاركة :