إن أردت أن تطاع فاطلب المستطاع.. والمستطاع في حلول أزمة المناخ لن يرضي جميع الأطراف. ولكن، في النهاية سيتغلب صوت العقل، ولن تبوء جهود 97 ألف شخص تجمعوا في دبي للمشاركة في كوب 28 بالفشل. قد يكون الوقود الأحفوري المتهم الأول في أزمة المناخ، كما يقول أنصار البيئة، ولكن هذا يجب ألّا ينسينا أن التطور الحضاري الذي ننعم به ندين بالفضل فيه إلى الوقود الأحفوري. والأهم من ذلك أن البشرية لم تعرف مسبقا الأضرار التي ستنجم عن استخدامه. يمكن أن نعدد قائمة من السلوكيات والمواد المضرة بصحة الإنسان نجم عنها موت الملايين من البشر قبل أن يعرف العلماء أضرارها، رغم ذلك لم يتم اتخاذ قرار قطعي بمنعها. نذكر من بينها التدخين والسكر والمواد الحافظة والملونة والأسمدة الكيميائية ومبيدات الحشرات والملح والدهون المهدرجة.. القائمة تطول لتشمل كافة منتجات الدقيق الأبيض المعالج. القائمة السابقة، وإن تسببت بقتل الملايين، إلا أنها تقتل بصمت؛ أي أن للأفراد خيار تجنبها أو الإقلاع عنها. بينما الاحترار الناجم عن الطاقة الأحفورية يتسبب بحوادث موت جماعي تثير الرعب، وليس للفرد القدرة على تجنبها بعيدا عن الجماعة.. حتى الدول لا تستطيع أن تنفرد باتخاذ مثل هذا القرار.هل هناك دولة تستطيع أن تتخذ قرارا بوقف استخدام الوقود الأحفوري منفردة؟ بالتأكيد لا. تستطيع الدول إن أرادت أن تمنع استهلاك السجائر وتمنع استخدام الملونات وتوقف استخدام المضادات الحيوية، رغم ما قد يترتب على قرارات مثل هذه من خسائر مادية. ولكن لا توجد دولة تستطيع أن تقول: أوقفنا استخدام الوقود الأحفوري.. حتى لو اتخذت مثل هذا القرار، لن يحميها ذلك من تبعات التغير المناخي. القرار يجب أن يتخذ على مستوى دول العالم أجمع، ويجب أن يكون عقلانيا لكي يلتزم به. وهذا ما أدركته الدولة المستضيفة لكوب 28. ولكن، هل حقا أن العالم وعلى رأسه الدول الغنية لم يفعل شيئا لوقف تلوث الهواء وإنقاذ كوكب الأرض؟ الإجابة عن هذا السؤال وحدها توضح وضعنا الحالي في هذه القضية التي تثير الكثير من المبالغات والمخاوف. ولنستبق الأمر ونؤكد أن ما سنقوله لا يعني أن الأمور ليست سيئة، وأن بإمكاننا الاسترخاء والنوم دون قلق. في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أطلق على إنجلترا لقب بلد الضباب. لم يكن السبب وجود ضباب فيها، بل دخان مصانع. في ذلك الوقت كانت إنجلترا تشهد ثورة صناعية كبيرة، وكانت المصانع تستخدم الفحم كوقود، مما أدى إلى إنتاج كميات كبيرة من الدخان والهباب الأسود (السخام)، وهي مواد دقيقة تعلق في الهواء. ونتيجة لذلك، كان الهواء في المدن الإنجليزية ملوثاً ومغبراً ومعتماً، وكان يتشكل ضباب كثيف وملون باللون الأصفر أو البني، يحجب الرؤية ويؤثر على الصحة. أشهر الحوادث البيئية التي تعرضت لها العاصمة لندن في الفترة بين 5 و9 ديسمبر عام 1952، ما يسمى بـ”الصبخان الكبير”، حين انتشر ضباب كثيف مختلط بدخان الفحم وغطى سماء العاصمة، مما أدى إلى تلوث الهواء بشكل شديد وتسبب في وفاة حوالي 12 ألف شخص وإصابة الآلاف بأمراض تنفسية. هذا الحادث كان أسوأ كوارث التلوث الهوائي في تاريخ البشرية، وقد أثار الوعي العام بمخاطر الاحتراق غير المنظم للوقود الأحفوري، ودفع الحكومة البريطانية إلى اتخاذ إجراءات قانونية مبكرة لتنظيم الانبعاثات الصناعية. اليوم، انخفضت البصمة الكربونية الفردية في بريطانيا إلى مستويات خمسينات القرن التاسع عشر، بعد أن بلغت ذروتها في ستينات القرن العشرين الذي شهد حادث الصبخان. تم ذلك بفضل التكنولوجيات الأكثر كفاءة في استخدام الطاقة والتقليل من استخدام الفحم. ◙ الدول الغنية تستطيع عن طريق المساعدات وفرض ضريبة على الكربون توجه إلى الدول الفقيرة أن تساهم في عكس الاتجاه الحالي للتلوث هذا ما أكدته هانا ريتشي في كتابها الذي لم ينشر بعد “ليست نهاية العالم: كيف يمكننا أن نكون الجيل الأول لبناء كوكب مستدام”، وقدم بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت عرضا له (يصدر الكتاب في الولايات المتحدة في التاسع من يناير/كانون الثاني 2024). تقول ريتشي إن انخفاض “البصمة الكربونية” لم يحدث في بريطانيا فقط؛ في البلدان الغنية عموما، يتراجع نصيب الفرد من الانبعاثات، وفي مختلف أنحاء العالم وصلنا إلى ذروة نصيب الفرد من الانبعاثات في عام 2012. البصمة الكربونية ليست الظاهرة الوحيدة التي أثيرت حولها المخاوف، هناك ظواهر أخرى، منها: ذروة السكان، ذروة استخدام الأسمدة والأراضي الزراعية، ذروة صيد الحيتان، وذروة إزالة الغابات في منطقة الأمازون. وظاهر أنها إما أصبحت خلفنا بالفعل، أو ستكون خلفنا قريبا. اليوم، تجري في العديد من مناطق العالم محاولات جادة لإعادة توطين أنواع الحياة البرية المهددة بالانقراض. وكانت الكهرباء، التي يعيش بدونها الكثير من فقراء العالم، أرخص في جميع المجالات في عام 2019 مما كانت عليه في عام 2009. وفي ذلك العقد، انتقلت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من أغلى وحدة إلى الأرخص. التركيز على خفض الوقود الأحفوري، أو المطالبة بالاستغناء عنه نهائيا، مجرد عبث وجدل لا طائل من ورائه. هناك خطوات عملية عديدة يمكن اتخاذها إلى أن تحين اللحظة التي تنتهي فيها الحاجة إلى استخدام هذا النوع من الطاقة. وحتى لا يتحول كوب 28 إلى مؤتمر “جعجعة دون طحن”، يجب التركيز على هذه الخطوات، التي أهمها تقديم مساعدات “سخية” للدول الفقيرة للانتقال إلى بدائل للوقود الأحفوري.. هناك وعود كثيرة في هذا الخصوص لم تنفذ. وهنا لا بد من تقييم الخطوة التي اتخذتها دولة الإمارات، البلد المضيف لكوب 28، والمتمثلة بتقديم مبلغ تريليون درهم (270 مليار دولار) خصصتها بنوك الدولة للتمويل الأخضر، وفق ما أعلنه رئيس اتحاد مصارف الإمارات عبدالعزيز الغرير خلال جلسات المؤتمر. وتضاف هذه الخطوة إلى قائمة من التعهدات بدءا من بناء الطاقة المتجددة إلى مساعدة المزارعين على تحسين جودة التربة. ◙ قد يكون الوقود الأحفوري المتهم الأول في أزمة المناخ، كما يقول أنصار البيئة، ولكن هذا يجب ألّا ينسينا أن التطور الحضاري الذي ننعم به ندين بالفضل فيه إلى الوقود الأحفوري تستطيع الدول الغنية عن طريق المساعدات وفرض ضريبة على الكربون توجه إلى الدول الفقيرة أن تساهم في عكس الاتجاه الحالي للتلوث. تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من مصادرها الرئيسة مثل الصناعات والنقل والمحطات الحرارية ليس الطريق الوحيد لمكافحة ظاهرة التلوث. هناك طرق عديدة أخرى مثل إزالة الغازات الملوثة من الجو بعد انبعاثها، بالاستفادة من عمليات طبيعية أو اصطناعية لامتصاص الكربون وتحويله إلى شكل آخر. وهناك أيضا تغيير بعض الخصائص الفيزيائية والكيميائية للغلاف الجوي. للمرة الثانية: هذا لا يعني أن الأمور ليست سيئة، وإذا لم يكن المجتمعون في كوب 28 جادّين في مكافحة تغير المناخ، فإن العواقب ستكون كارثية. نختتم بما قاله بيل غيتس الذي يشارك في جلسات كوب 28: العالم سيء، لكنه أفضل بكثير. هذان الأمران النقيضان يمكن أن يكونا صحيحين في آن واحد كما أثبتت هانا ريتشي في كتابها المفعم بالأمل. لا يوجد بين المشاركين في مؤتمر كوب 28 من يعتقد أنه في منأى عن الأضرار التي يتسبب بها التغير المناخي.. الخطر يتهدد الجميع وإن لم يكن بالتساوي حتى هذه اللحظة. الجميع قدم وعودا.. لا أحد يمتلك ترف التهاون في تنفيذها.
مشاركة :