عرّف دكتور عالي القرشي -رحمه الله- الرواية بأنها: «كائن مُتجدد، لا يرضى بأن يسير على سنن معروفة!» تعريفه أوحى لي بفكرة أن الرواية أيضاً كائن متمرد يعيش على ابتلاع بقية الآداب، فيأكل القصة، ويشرب الأشعار، كائن يحب مُشاكسة النقاد، ويقف في صف أسلوب الكاتب ومتعة القراء. ويبدو أن عبدالعزيز النصافي أخذ كائن الرواية هذا وحاول تهذيب أطرافه الحادة بالشاعرية، وتقليص توتر الأحداث بالواقعية، ثم عطّر غلافه وعنونه بـ»أغنية قادمة من الغيم». وكحال الأغنيات، يحمل صوت المطرب كامل الثناء، قد يسأل بعض المستمعين عمّن لحن، وحتماً يسأل المستمتعون عمن كتب الكلمات، ولكن يبقى مجد الأغنية تحكمه حاسة السمع. وفي «أغنية قادمة من الغيم» لا تسل عزيزي القارئ عن نغمة الحبكة، أو كوبليه العقدة. استمتع بقراءة الرواية كأنك تستمع لأغنية طويلة، واترك عنك عصا الناقد الصغير، لا تهشنَّ بها على صفحات السرد! يبدو أن النصافي في تجربة روايته الأولى أراد أن يخطب ودَّ الكل، فجاء في الإهداء بباقة ورد وزعها بشكل شاعري على «الصبايا الفاتنات اللاتي يُخبئن قصائدهن المشتعلة... في فساتينهن القصيرة» و»للشعراء المجانين» و»النقاد الذين يُعجبهم العجب» وللبسطاء والفلاحين «والمغرمين بالجمال» ولنفسهِ ولحبيبته! جمعٌ غفير من العاطفيين، قراء وحالمين، يُحبون الغيم والأغاني ويشهدون بالحب منهجاً وطريقة! زين النصافي روايته بالأشعار ورصعها بالاقتباسات، رصَّ على رفوفها بعض الكتب، ضمنها مقالاً، وعطرها بالرسائل والمكالمات، ثم أخرج لنا رواية جمعت الكثير من الآداب بانسجام قد يُربك مُحبي الروايات المكتوبة على قوانين السرد العالمية. لا أخفي حالة الارتباك التي حاصرتني في بداية قراءة الرواية، لقد صبَّ الاقتباسات صباً على وجه الصفحات، ولكن حلاوة اللغة، وملامح الشخصيات، والزمن الذي عُزفت فيه أغنية النصافي، أمور دفعتني لإكمال القراءة. نجح في شد انتباه عاطفتي، ورسم شخصياته بالكلمات كما يليق بصحفي كاتب مُطلع! أخذني نحو ركن سرده الذي اختاره، سحرَ الذاكرة بالأغاني التي عزفها، والكتب التي وزعها في أماكنها المناسبة من أحاديث الشخصيات. ثم غاص بنا في سماء رواية لم تُحمل فصولها بالعناوين، وإنما بتذاكر سفر قصتها شركة الاقتباسات الشعرية، ففي بداية كل فصل نرحل على متن أبيات لشعراء لطالما عطروا أسماعنا وعرفتهم الأمسيات والصحف العربية. وحينما بدأ عزف أغنية الرواية، اختار النصافي أن يجعل من شخصياته مقاطع سردية لا تتداخل فيما بينها! كأنه أخذ على عاتقه أن تكون شخصيات روايته مقطوعاتٍ غنائية لا تقبل التمازج والتفاعل بينها. كُلٌ يغني على ليلاه. فبعد أن نتعرف على «تاج السر» الشخصية السودانية الفريدة في الرواية، ونندمج في حياته، ثقافته، معاناته، أصدقائه وغربته، ينتهي دوره في الرواية مزامنةً مع دور زيد الذي قضى وطراً من بعض السرد ثم غاب هارباً أو مجنوناً إلى بحر الاستفهامات! وبعد سنوات من الذاكرة، جاءت شخصية نمارق كدهشةٍ أولى في حياة الراوي. كقصة مخبأة قرر أن يبوح بها. ومنذ أن حضرت نمارق قررت حمل بقية الرواية على أكتافها، بصفتها عنصراً نسائياً وحيداً في معزوفة النصافي! إن كان لرواية «أغنية قادمة من الغيم» بطل واحد فهو اللغة كما أرى. مزج النصافي شخصياته بلهجاتهم المتعددة، ومآرب حياتهم المختلفة، وصاغهم في أحسن تشكيل لغوي. وصف لهجة بطله تاج السر فقال: «يشرح لنا... بلهجته السودانية المرشوشة بعطر الأعشاب الأفريقية المغسولة بمياه النيل»، ثم عرفنا عن زيد أنه « المثقف الذي... مزج الثقافة بالجنون والماء بالنار... يبتسم وفي عزّ الابتسامة القصيرة يغضب، تطير من لسانه كلمات نارية من جمر اللغة» وحينما دارت دفة الحديث عن نمارق رأيناها وسمعنا كيف كان «صوتها مطرز بالهيل والزعفران والبن المعطر، وهي نجمة بيضاء فاتنة معجونة بالثقافة والقصائد والأغاني الشجية وحكايات الخزامى والنفل والشيح». أثث لأحد المشاهد فقال واصفاً: «في عز القهوة وعطرها الفواح عادت إلى السماء سحابة ناعمة ترسل دموعها بخجل، وتطرق النوافذ الخشبية بهدوء، وبدأت الحكايات تصعد والقصائد تهطل» ثم بعد عدة صفحات شبه الفلاح بالقارئ فقال: «حين يفتح الفلاح النافذة في الصباح نحو حقله تهب عليه نسائم باردة فيها رائحة الطين والعشب والورد والمطر كذلك حين يفتح القارئ الكتاب». تُراودني أحياناً حين أقرأ الروايات تساؤلات حول نفسية وحالة وفكر ومشاعر الكاتب. عن أخلاقه ومبادئه وغرضه من كتابة الرواية. وهو تعدٍ غير مُبرر وربما مرفوض في شرع النقاد، ولكن أحياناً أستطيع الجزم بأن هذه الرواية كُتبت بدوافع إنسانية، وتلك الرواية شغلَ الروائي نفسه وفكره بما سيقوله القراء والنقاد عنها فأخرج لنا مسخاً سردياً، ورواية ثالثة تجلى في كتابتها الروائي حتى لتشعر بأن روحه تسعى بين الصفحات. مجرد أفكار أحبسها دون التصريح بها عن بعض الروايات. أما قلنا في البدء بأن الرواية كائن، وله بالضرورة روح يستشعرها قراء رُفعت عنهم الحجب! في رواية «أغنية قادمة من الغيم» استشعر مدى السلام والتصالح مع الذات التي كتبَ بها النصافي روايته، رواية لا تؤذي القراء، لن يزيد معدل القلق لمعرفة مصير الأبطال الحبريين، قد يتنهد القلب بعد الانتهاء من قراءة الرواية، قد تستيقظ ذكرى جزى الله خيرًا من أيقظها، ولكن المؤكد لدي أن النصافي استمتع بكتابة الرواية. ورغم ما للغيم والمطر -وهي كلمات تكررت مراراً في سماء الرواية- من دلالات بيضاء و زرقاء، إلا أن غلاف الرواية اعشوشب سريعاً من فيض الغيم ووقع المطر. أتى الأخضر مُمتداً إلا عُشراً على غلاف الرواية، وكُتب عنوانها بلون زهرةٍ بكرٍ لم تلمسها يد قاطف، وفي البعيد حيث منتصف الأفق الغائم يمضي ظل رجل يحمل حقيبة أشعاره وربما أحلامه، ويسعى نحو هدفه! أعجبني الغلاف، فكل ما فيه «جميلٌ ويُغني» بصوت لطفي بوشناق. أخيراً على قارئ «أغنية قادمة من الغيم» تناسي مسألة الصراع والحبكة وتداعي الأحداث، والركض في صفحات التشويق، عليه أن يترك نفسه ومشاعره لقلم المؤلف الذي كتب هذه الرواية بحبر السلام والاطمئنان! حبر لم يخشَ سوط النقاد وقد غازلهم بسطر في الإهداء، حبر لم تروعه تقنيات السرد، وضرورات القص، وأعباء الحكي. كأن النصافي حينما قرر كتابة روايته أقسم على كتابة غيمة حالمة تُمطر بالشاعرية في قلوب من يقرأونها! فهل كانت الشاعرية حكراً على الشِعر وحده؟ ومن حرّم اللغة الشاعرية في الرواية العربية؟ وهل يجب علينا أن نقتفي أثر الرواية الغربية حذو الحبكة بالحكبة؟ أم نضع لنا من قوانين السرد ما يناسب لغتنا المخضبة بالبديع والبيان؟ تساؤلات طرأت على ذهني بعدما أغلقت الصفحة الأخيرة من غيمة النصافي!
مشاركة :