وسَّع البنيويون نطاق دراسة الرواية وقدّموا تنظيرات واجترحوا مفاهيم انتقلت بعلم السرد من نطاق (نظرية الرواية) إلى نطاق (النظرية السردية) فصار الاهتمام منصبا على النص السردي بوصفه معمارا مكتملا، فيه المؤلف يؤدي دوره، والسارد ينجز وظيفته، والقارئ يتلقى العمل ويظهر استجابته له. وما بين الإنجاز والاستجابة مؤلف وقارئ حقيقيان. وما على الأول سوى أن يؤثر في الثاني، وما على الثاني سوى أن يظهر استجابته التي تؤثر في الأول فتغدو العملية السردية من ثم عبارة عن عملية نقد قرائية على خلفية تلقي إنتاج سردي. ولا يخفى أن التنظير الغربي للسرد والسراد إنما انطلق من منظورات فلسفية معينة أو من حيثيات علوم أساسية أو مستجدة، فالفلسفة الواقعية مثلا كانت سببا في وضع نظرية الرواية مطلع القرن العشرين كما أن الفلسفات اللغوية الحديثة لدو سوسير وبيرس كانت سببا في استقراء الأشكال وتحليل الأبنية النصية. وساهم التطور الذي حصل في مدارس علم النفس والفلسفة الظاهراتية الفينومينولوجية لهوسرل وهيدجر فضلا عن تفكيكية دريدا في أن تتطور النظرية السردية البنيوية في ستينيات القرن الماضي. ولم يستعمل البنيويون مفهوم (علم السرد) إلا عام 1966 بعد أن أصدرت المجلة الفرنسية (تواصل) عددا خاصا بعنوان (التحليل البنائي للسرد) ثم استعمله تورودوف عام 1969 في كتابه (قواعد الديكامرون) كأول محاولة جادة للبحث في قواعد النظرية السردية. وعد روبرت شولز هذا الكتاب (أهم خطوة في علم القصة منذ دراسة بروب). ولم يكن تزفتان تودوروف يقصد بالعلم الركون النظري عند منطقة النص، إنما قصده التعميم المفاهيمي في التعبير عن هذا التنوع في النظرية السردية التي ما عادت مقيدة بالنص ولا هي متخلصة منه في آن معا. وما يميز مؤلفات تودوروف ما بعد البنيوية هو هذا الاهتمام بالعودة إلى دراسة المرويات التراثية والكلاسيكية التي تنتمي إلى العصور الوسطى وما قبلها وتفحص أبنيتها وسياقاتها كما في كتابه (مدخل إلى الأدب العجائبي). بيد أن محاولة تودوروف هذه ظلت مقيدة بدراسة مظاهر النص القصصي وما يتعلق بها من مناح دلالية وسياقية وبلاغية وفي إطار النظرية السردية مع الاستناد إلى كشوفات المدرسة البنيوية. وأهمها فحص السرد ووصفه ومعالجته بنائيا مع بعض التوسيعات التي تخرج عن تقييد جينيت للسرد في القصة والرواية وتدخل في توجهات رولان بارت وسيمور تشاتمان وميك بال وغيرهم من الذين رأوا أن أي شيء يمكن له أن يكون سردا ويحكي قصة. وساعدت جملة عوامل موضوعية في أن تتطور النظرية السردية على أيدي منظري ما بعد البنيوية، ويكون التوصيف العام لهذه النظرية أنها «علمية» أي تستقي مفاهيمها من علوم اللغة والعقل والاتصال والاجتماع والذكاء الاصطناعي وغيرها. ومن تلك العوامل مثلا ما ظهر من نظريات القراءة ونقد استجابة القارئ وكذلك ما احتلته فينومينولوجية هوسرل وظاهراتية هيدجر من مكانة عند منظري السرد فضلا عما استجد من تجريب في كتابة الرواية الجديدة عند الان روب غرييه وكلود ريموند وكلود سيمون وناتالي ساروت. وهكذا بدت الأجواء مناسبة لأن يقدم باختين وواين بوث وولفغانغ ايزر وبارت وجينيت وتودوروف وجوليا كرستيفا وميك بال وغيرهم طروحات بنيوية ما بعدية، تصب في باب العلم النظري وتدور حول السرد والسارد والمسرود له والمتلقي أو القارئ. ويعد ولفغانغ ايزر من أكثر المنظرين اهتماما بوضع تصورات نظرية للقارئ وما قد يضيفه إلى النص أثناء عملية القراءة، وركز بشكل خاص على دور القارئ الضمني في الاستجابة للنص الروائي بوصفه الفاعل الذي يملأ ثغرات النص المقروء ويكمل نواقصه، وهو الذي يحوّل سطور الصفحة إلى صور يستكمل بها عمل المؤلف الروائي. وهذا ما لفت أنظار بعض النقاد الأمريكيين وبخاصة منظرو الأدب السردي، فكتب ومزات وبيردسلي مقالتهما (المغالطة العاطفية) وركز ستانلي فش على القارئ بوصفه منشئا مكملا للنص في مقالته (الأدب في القارئ) وفيها حاول نقل الأهمية من النص إلى القارئ. واهتم جوناثان كلر بالبحث عن الكيفية التي بها يستجيب القراء لمعنى النص المقروء في كتابه (الشعرية البنيوية) واجترح مفهوم الإكمال الأدبي الذي يؤديه القارئ بحسب وعيه وافتراضاته. وأعطى كل من نورمان هولاند وديفيد بليتش اهتماما ملحوظا لهوية القارئ، وشددا على أهمية الوعي الذاتي في العملية القرائية بوصفها عملية نفسية سلوكية تنمي القدرة على التفسير وتساعد في ممارسة التأويل. ومن نقاد الرواية الفرنسية ومنظري البنيوية وما بعدها الأمريكي جيرالد برنس الذي أظهر ميلا واضحا نحو نظرية القراءة ونقد استجابة القارئ. وله مجموعة دراسات راهن فيها على (السردية) والتفريع فيها والاشتقاق منها، رغبة في التوجه نحو توسيع نقد السرد والتنظير فيه. وجمع تلك الدراسات في كتابه الموسوم (علم السرد: ال شكل والوظيفة في السرد The Narratology; Form and Function of Narrative ) 1982. وإذ لم يكن برنس من المنخرطين في الفلسفة الظاهراتية، فإنه واقعيا كان مسايرا النقاد المتشربين لمفاهيم هذه الفلسفة وطروحاتها، وأولهم ولفغانغ إيزر لاسيما في توجهاته النقدية نحو مركزة القارئ وتأكيد فاعليته كطرف ضمني من أطراف الفاعلية السردية وكطرف خارجي فعلي. وتتجلى مسايرة برنس للظاهراتيين من خلال عنوانات فصول هذا الكتاب ومتونه وطبيعة العينات التطبيقية التي مثّل بها. وبالربط ما بين السرد كعلم بنيوي والقراءة كمفهوم فلسفي ظاهراتي تمكن برنس من التوسع بالنظرية السردية. فلم يقر بوجود سارد ومسرود ومسرود له ينضوون داخليا في نص سردي كتبه مؤلف ووجهه إلى قارئ، بل وجد أن في السارد مؤلفا وفي المسرود له قارئا. أما المسرودات فليس شرطا أن تكون حيوات صنعها سارد بل يمكن لها أن تصنع حياتها بنفسها. وإذ يعبّر السارد عن وجوده بنفسه، مستعملا واحدا من الضمائر الثلاثة (هو وأنت وأنا)، فإن المسرود له لا يعبر عن نفسه وإنما يعبر عنه السارد بـ أنت أو هو. وبهذا يكون الأنا هو المرجع وهو المفكر في حاله وزمانه ومكانه، ولكن هذا التنوع في عمل السارد والتوسع في وظائفه يأخذ منه بالمقابل (الموثوقية) التي ما أعطاها المنظرون البنيويون اهتماما. فالسارد بامتلاكه ثلاثية (أنا/ هو/ أنت) لم يعد حاضرا وإن كان غائبا، مما كان قد ذهب إليه البنيويون، بل هو مركزي الوجود لأنه بمجرد نطقه اللفظي للفعل السردي يغدو حضوره واضحا داخل الجملة المنطوقة، متماهيا مع ما حوله ومع ذلك هو مميز ومهم. وأهمية السارد ومركزيته تجعله في موضع الشبهة من ناحية الموثوقية أو عدم الموثوقية، فالمسرود يظهر بحسب ما يسمح له السارد بإظهاره، وبإمكانه -أي السارد- أن يخفيه من الوجود وله أن يظهره على الملأ، ولكن الإظهار لا يكون بقصد إعلاء شأنه وإنما بقصد التطفل عليه وتأكيد وعي السارد بوجوده وليس إقرارا له بالأهمية. أما المسرود له فيتخوف منه السارد، لأن بإمكانه أن يشاكسه بقصد مشاركته العمل أو بالعكس يعرقل عمله ويقوّض له نسيجه السردي بقصد تعطيل عمله. فيكون واجبا على السارد توخي الحذر من المسرود له من خلال الوعي بخطورة دوره واحتمالية أن يؤثر في مدى موثوقية القارئ بعمل السارد، يقول جيرالد: (إن السارد الموثوق به ليس بالضرورة شخصا يجب أن اتفق معه كقارئ، إذ مهما اتصف السارد بالمصداقية والثقة فقد أجد أن قيمه بغيضة).
مشاركة :