الرواية بين أحادية الصوت وتعدده - د.نادية هناوي

  • 4/14/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تعد الرواية من أكثر الأجناس الأدبية قدرة على إبراز النزعة الأيديولوجية التي فيها للكلام تسلط حتى لا مسافة فيه بين الشخصية ومتلقي أقوالها. وقد أدى كثير من الروايات أدوارا مهمة في الدعاية لأيديولوجيات مختلفة وترويجها والعمل على تعميقها، سواء أكانت هذه الروايات أحادية الصوت تبث أيديولوجيا واحدة أم كانت متعددة الأصوات تبث عدة أيديولوجيات. ويظل نجاح الرواية في أداء وظيفتها الأيديولوجية متوقفا على مهارة كاتبها في انتقاء الشكل الذي يتناسب مع المحتوى الأيديولوجي تناسبا جماليا يجذب القراء ويدفعهم نحو التأثر والتفاعل. فعلاقة الفن بالأيديولوجيا ليست يسيرة أو خالية من التعقيدات. وإذا كان التوسير قد رفض اختزال الفن في الأيديولوجية مؤكدا أن الفن ليس مجرد انعكاس لها، فإن بيير ماشريه رأى أن الفن يكشف لنا حدود الأيديولوجيا ويساهم في تحريرنا من الوهم الأيديولوجي من خلال تجربة مألوفة يعمل عليها الفنان محولا إياها إلى مادة مختلفة شكلاً وبنيةً. وعادة ما تكون الرواية أحادية الصوت مقتصرة في البث الأيديولوجي على ما يقوم به السارد المركزي من دور في رؤية العالم تصوريا. وقد تكون صورة المؤلف - حين لا يترك سارده مستقلا فيتدخل في عمله ويقتحم ميدانه -مقترنة بصورة هذا السارد ومتطابقة في التعبير عن موقفه من العالم ومعرِّفة بانتمائه الأيديولوجي في حين تتسع مساحة الرواية متعددة الأصوات ليكون لكل صوت سردي وجهة نظر مختلفة، وكلما تعدد الساردون تعددت وجهات النظر الأيديولوجية، وبهذا ينجو المؤلف من التطابق مع السارد ويتحرر من ربقة التحيز الأيديولوجي. ولا يعني هذا أن الرواية أحادية الصوت أفضل من متعددة الأصوات وإنما هي المعالجة الفنية التي فيها يضرب مؤلف الرواية متعددة الأصوات أمرين بحجر واحد، فهو من جانب يبرأ بنفسه عن أن يكون كاتباً مؤدلجاً وفي الوقت نفسه يُشرك القارئ في مهمة الفرز لهذه التعددية الأيديولوجية المبثوثة داخل الرواية، لينتقي القارئ واحدة منها يرى نفسه فيها وربما يكون منتميا إليها أو لعله يباركها ويناصرها أكثر من غيرها. وما تعدد الأيديولوجيا في الرواية متعددة الأصوات سوى تنوع وجهات نظر الساردين بتنوع الأدوار الموضوعية المسندة إليهم وطبيعة علاقتهم بالشخصيات الثانوية. ولا يؤدي هذا التعدد إلى تضارب في وجهات النظر، بل هو يساهم في تعميق المحتوى الأيديولوجي عبر اصطناع صراع سردي يحاكي ما يجري على أرض الواقع المعيش من احتراب فكري أو تصارع حزبي أو انحياز طائفي تزاوله جماعات وأطراف وقوى متصارعة. وتغدو الحاجة إلى الروايات متعددة الأصوات ماسة وحاسمة في التعبير عن عالمنا اليوم بسبب ما يعج به من آيديولوجيات، وهو أمر لا يخيف الدول الديمقراطية إذا ما كان للمرء أن يتقبل فكرة أن الدعاية ليست إلا عملية إقناع - كما يقول فيليب تايلور -. ( كتابه قصف العقول، ص386) فكيف يكون الأمر في مجتمعاتنا العربية التي فيها تنشط التحزبات والاستقطابات والانحيازات؟ وهل يمكن للرواية متعددة الأصوات أن تؤدي مهمتهما في جعل القارئ متفاعلا مع مختلف الرؤى المطروحة؟ وهل وصل القارئ العربي إلى مرحلة يكون فيها وعيه منتجا ومتخلصا من دوره الاجتراري الذي داوم عليه عقودا طويلة، كي ينظر إلى الدعاية الأيديولوجية على أنها ليست فرضا أو إلزاما بل هي تمرين عقلي في التفكير، نتيجته أما الاقتناع أو عدمه؟ إن الأمر بالتأكيد يتوقف على مهارة الروائي في الإفادة من تقانة تعدد الأصوات السردية في اصطناع صراع فكري متكافئ ولكن فيه فراغات وثغرات يتركها لقارئ روايته كي يتفاعل معها مشاركا في عملية الاصطناع تلك؛ بإنتاجية قرائية واعية ومن ثم لا تخلب لب القارئ ايديولوجية واحدة فيقع مأسورا بسحرها مشدودا إليها بلا أدنى فاعلية في التفكير والاقتناع. ولطالما مارست الروايات أحادية الصوت هذا التأثير فكانت وسيلة إعلام قوية في احتكار بث أيديولوجيا معينة تدعو إليها فارضة إياها على القارئ. وما كان لدوستويفسكي أن يبتكر التعدد في الأصوات السردية إلا تعبيرا عن الحاجة إلى صنع وعي قرائي ذاتي يتضاد مع كل اعتقاد إلزامي أحادي. وقد أخذت الرواية العربية متعددة الأصوات منذ مطلع القرن الحادي والعشرين توظف هذه التقانة توظيفا جديدا يختلف عما عهدناه في مثيلاتها في القرن العشرين التي كانت ترجو من خلال التعدد في بث أيديولوجيات تحقيق أغراض متنوعة بعضها يصب في باب التحريض على الثورة والنضال من أجل الاستقلال والعدالة وبعضها الآخر يصب في باب الاستكانة والتسليم إذعانا وتطبيعا. أما الرواية اليوم فإنها ترجو مزيدا من أعلاء دور القارئ وجعله أكثر تأملا وتفكيرا في ما يبث من أيديولوجيات، واضعة الثقة بقدرة هذا القارئ على الاقتناع الذاتي بواحدة منها من دون قسر أو إجبار. ولا تعبّر عملية الاقتناع بأيديولوجية معينة عن وسطية القارئ أو اعتداله العقلاني دوما، فربما تعبر عن رفضه الصارم لكل ما هو متطرف لا يحتكم إلى العقل أو ينافي الطبيعة الإنسانية، وكذلك مقته لكل من يروج للاستقطاب المدجن والتنظيم المسيس والمحشد بالتغرير والترغيب عبر ممارسة أفعال مشينة. ** ** - العراق

مشاركة :