قال أبو عبدالرحمن: أَكْثَرْتُ الحديثَ عن نَظَرِيَّةِ الْمَعْرِفةِ والعلم؛ لأنها الجناحُ الثالثُ الأهمُّ لفهم شرائعِ الله على مُراد الله، وللإيمان به جَلَّ جلالُه، وبما جاء من عنده عن براهين عِلْميَّة قطعية، وَلِفِهِم كلِّ ذي تَخَصُّصٍ أو تخصُّصاتٍ في المعارف البشرية أصولَ العلومِ وفلسفاتِها وغاياتها، ووراءَ ذلك الإبداعُ والعطاءُ والتَّجدُّد؛ ولهذا يظلم نفسه جداً من يتصدَّرُ للتأصيل في أي حقل علمي، أو يتعنَّى لتحقيق مسألة مِن مسائله قبل أن يستوعب بالتحقيق العلمي (نظريةَ المعرفة والعلم)؛ وليست هذه النظرية غائبةً عن سَلَفِ أُمَّتنا، ولكنها غيرُ مُؤَصَّلُة ولا مرتبة؛ فليس في تراثنا كتابٌ واحد باسم نظرية المعرفة، أو نظرية العلم، أو هُما معاً؛ فهذا معنى كونها غير مُؤَصَّلة.. وهي في تراثنا في غاية التَّشويشِ؛ لأنها مُفَرَّقة في كُتُبِ علمِ الكلام، والفلسفة، والمنطق؛ وهذه العلوم مذمومةٌ في تراثِنا، وعندهم أنَّ مَن تمنطق تزندق.. وكان شيخي عبدالرزاق عفيفي رحمه الله تعالى -فيما حدثني به الثقاتُ من خُلَّص تلاميذه-: يُدرِّس الْمُهِمَّ من المنطق في بيته، وهم قلة من أذكياء تلاميذه المُتَمَكِّنين في علم الشرع.. وما مَضَى ذِكْرُهُ من ذَمِّ الْمَنْطِقِ حَقٌّ في الجملة؛ لأنها: إما ظنون وأراءٌ مُسْبَقَةٌ، وإما محصورةٌ في الغيبيَّات، وهي (الميتافيزيقا) عند الغربِيّْيِيْنَ (بالغين المعجمة)، وهم لا ينظرون إلى (الميتافيزيقا) في الأعم الأغلب بإجلال أو احتفاء.. ومنها أمشاجٌ في الحقول العلمية كأصول اللغة، وأصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول التاريخ، ومصطلح الحديث من جهة توثيق الثبوت والدلالة.. ولكنَّهُ لم يُحْكمْ رَبْطُها بالنظرية الأمِّ (نظريةُ المعرفةِ والعلمِ) وإن كان للإمام ابن حزم في كتابيه (الإحكامُ)، و(الفِصِلُ) لفتاتٌ غير مُسْتوعِبة في الربط بينهما.. كما أنها محكومةٌ بالرأي المُسْبق، وهو التقيُّد بمذهبٍ بعينه؛ فما كان منها في أصول الفقه مثلاً فهو محكوم بمذهب أحد أئمة الفقه المتبوعين، وما كان منها في الفلسفة أو علم الكلام أو المنطق فهو محكوم بأئمة المذاهب العَقَديَّة من معتزلة وأشعرية وصوفية وباطنية... إلخ.. كما أنه محكوم بمذاهب الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون... إلخ.. وتأصَّلَتْ النظريةُ عند الغربيين بالغين المعجمة بعد القرون الوسطى بأمدٍ؛ وهي (بعد الحذر من التضليل المتعمَّد من الحِسبانِيّْيِينَ والملحدين، وبعد الحذر من تأثير التحريف في الأديان): عظيمةُ النفعِ في تحليلِ ملكات المعرفة، وحدودِها، ومعاييرها.. إلا أنهم جعلوها باسمِ (نظريةُ المعرفةِ)، والحقُّ أنها نظريةُ معرفةٍ تَتْبعُها نظريةُ علمٍ؛ وهذه المعرفة هي الأصل الذي تتفرع عنه نظريات المعرفة والعلم في الحقول الثقافية والعلمية؛ وبيان ذلك: أنَّ نظريةَ المعرفة والعلم تحيلٌ للمعرفة البشرية والعلم البشري، وإحصاءٌ لمصادرِ المعرفة المُكْتَسبَة، وإحصاءٌ للملكات الفطرية التي تُعرِّف وتُعَلِّم، وبيانٌ لخصِّيصةِ كلِّ مَلكة.. أيْ أنها للتعريفِ والتعليم بما عَلِمْتَه، وليستْ لاكتساب ما تَعْرِفُ وَتَعْلَم.. مثال ذلك ملكة التمييز بين فوارق الهُوِيَّات، وملكةُ التمييز بين العلاقات بينها؛ فهما حَتْمِيَّتان فِكْرِيَّتانِ تُذكِّران الْمُفَكِّرَ -تعريفاً، وعلماً- بما حصل بالاكتساب، وبما حصل للملَكةِ نفسِها اكتساباً.. تُذَكِّرَانِه بأنَّ المشاهدة لا تزالُ تُحيل إذابة الفوارق بين الهُويات بعد التمييز بين الفوارق، ولا تزال تُحِيل العلاقاتِ بينها.. وهي عامة لكل ما ندركه غير مُقَيِّدة بخِصِّيصة كل حقل ثقافي أو علمي؛ وهي لذلك حرة طليقة إلا من القيود الفطرية التي تحكمها.. وهي غير مُقَيَّدة بمذهب عالمٍ بعينه، بل هي لمعرفة البشر وعلمهم كافة؛ فإذا اِنْتَقَلَ الْمُفَكِّرُ إلى حقل ثقافي أو علمي فهناك التقييد بمادة الحقل نفسه؛ فلا تُدخِل فيه ما ليس منه، ولا تخرج منه ما هو فيه، وتعتمد على استقراء الخنساء: «لا حيٌّ فيُرْجَى، ولا ميت فيبكى»؛ فهي تريدُ الحياةَ مجازاً: أيْ التي لا يُعْتَدُّ بها؛ وهكذا الموتُ مجازاً؛ لأنَّه لا يجتمع الضدان مع جواز ارتفاعهما؛ فلا يجتمع الركوع والسجود في آن واحد، ويرتفعان لوجود وسائط أُخَر كالقعود والاستلقاء والقيام والركض.. وكل أحكام العقل ترجع إلى هذه المبادئ الثلاثة.. أي لا يَجْتَمِعُ النقيضان، ولا يرتفعان، وقد يرتفع الضدان ولكنهما لا يجتمعان؛ وكلُّ ذلك على سبيل الحقيقةِ لا المجازِ.. وأما تصوُّراته فترجع إلى ما هو في المشاهدة الحسية التي التقطها العقل بتصوُّره وحافظته وذاكرته.. إن العقل البشري الذي نعلم بالحسِّ وجودَه، ووجودَ ملكاتِه، ووظائفَها (وقد لا نعلمه رؤية ولمساً بالتشريح، وكم لله من آية في الأنفس): جعله الله شرطاً لفهم الخطاب الشرعي، وما يترتب عليه من ثواب وعقاب؛ فلا مسؤولية على مَن لم يبلغ التمييز، ولا على من فقد عقله بعد التمييز بجنون أو إغماء أو ذهاب وعي؛ فيتخلَّف حضور العقل.. وهو نورُ الله الفطري الذي جعله لنا ربنا هادياً في شئون دنيانا؛ كاقتراح الأسباب في توقِّي الأخطار، والحنكة السياسية، وتنظيم سياسة الحرب والسلم، وابتكار المعارف كالطب والصناعة وعلم الأَحياء والتجارة والفقه في النظريات لغاتٍ وآداباً... إلخ؛ فهل البشرادلون عن تلك الأسباب؟.. إن كان الجواب بالنفي فذلك جحد لما عرفناه وشاهدناه، وإن كان الجواب بالإثبات فيلزم أنَّ البشر قاطبةً ليست لهم عقول، وأن القصيميَّ لا عقل له، وأنه لا وسيلة له في التخاطُب مع الناس وإقناعهم؛ لأنَّ آلاف الصفحات التي كتبها لغوٌ من مُسْتَلَبٍ لا عقلَ له؛ فلا يُسْتَثْنَى غيرُ البشرِ الذين يَزِنون بعقولهم ومشاهداتهِم مَعارِفَهم وعُلُوْمَهم.. والله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً كما في سورة النحل.. وأحْسَنُ وصفٍ وتشبيهٍ للعقل في آنٍ واحد كلمةُ جون لوك الفيلسوف الإنجليزي: «العقل كالصفحة البيضاء، والحسُّ ينقش فيها معارفه» [قال أبو عبدالرحمن: اسْتَعْمَلَ هذا التشبيهَ الإمامُ ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (الردُّ على المنطقيين)؛ وهو أسبقُ من (لوك)]؛ والمراد بالمعارف تصوُّراته حفظاً وتذكُّراً، وأحكامه.. وعلى أحكامه قام ما تميَّز بقيمتي الحقِّ والخير والجمال، ومن أحكامه صدرت قيمة الحق؛ فلما جاء الشرع الذي هو تنزيل خالق العقل سبحانه تقيَّدتْ أحكامه فيما هو معرفة شرعية (براء قبل العين المهملة، وبدون باء معجمة ذات نقطة واحدة قبل الشين)، وانفصل خصوص هذه المعرفة الشرعية عن عموم المعرفة البشرية المنسوبة إلى البشر؛ فتحدَّدت أحكامه بهداية الشرع الذي هو هداية خالق العقل، وأقام الله فطرةَ العقل على ملكاته التي نعلمها من ممارستنا التفكيرَ، وأقام جميعَ أحكامِه على قانون واحد هو (قانونُ الهُوِيَّة)؛ وبيان ذلك أنَّ الوعيَ غيرُ الإرادي، والإحساسَ غيرَ المستقر: يبدآن بولادة الطفل، ثم بالسماع والمشاهدة والذوق واللمس والرؤية والإحساس النفسي بالمفرِح والمحزن، ثُمَّ أخذت بالتدريج تتكوَّن لديه صورُ ما استطاع إدرَاكَه بحواسه الظاهرة وإحساسه الباطن، ثم يكتمل إدراك العقل بما هو في قدرة البشر باكتمال ما أدركه من نواقص لم يدركها قبلُ من صُوَرِ الهُوِيَّات.. وهذا دأبه إلى أنْ يموت الفرد، أو يفقد وعيه في مدة عارضة، أو يُرَدَّ إلى أرذل العمر؛ فلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً.. وكل ما ذكرته وأذكره هو وِجْدان في عقل كل إنسان؛ فلا يقوى فرد على الإقناع بأن ما في عقله من تصوُّرات ليس صادراً عن المحسوسات، ولا أنه في تدريب وتكامل منذ انتقال الوعي الفطري إلى التمييز الاكتسابي.. ولا يقوى على الإقناع بأنه أوجد عقله وملكاته؛ وإنما يكتسب من المحسوس المخلوق قبله مُدْركاتِ عقله.. وعل الله في فطرة العقل على مدى اكتمال التمييز ملكاتٍ تحفظ صورَة ما أدركه بحسه، وتُحضرها له إذا أرادها.. وجعل له مَلَكَةَ التذكُّر إذا نسي الصورة أو جزءاً منها، وجعل له مَلَكَةَ التمييز بين الهُوِيَّات؛ ومن هذه الملكة حصلت له تصوُّرات مقارِنة ذات علاقات بين الأشياء وفوارق أُسَمِّيها التصوُّرات المُقارِنة؛ فعندما يحفظ صورة الحمار، وصورة الفرس :يحدث له حفظ تصوُّرات مقارِنة هي العلاقات والمفارقات كأوجه الشبه بين الحمار والفرس، وأوجه التغاير بينهما.. وهكذا صورة صوت الرعد المسموع، وصورة زئير الأسد المسموع.. وهكذا صورة ما لمسه الإنسان بأحد جوارحه أهو أملس ناعم كالقطن، أو هو خشن صلب كالصوف والحجر الصلد؟.. وهكذا صورة ما لمسه بذائقة اللسان، واستطعمه بريقه: أهو حلو، أم مر؟.. وهكذا صورة ما أدركه الأنف بحاسته: أهو عَبِقٌ طيِّب فواح، أو هو قبيح منتن؟.. ويصدر عن الخارج صورُ حسٍّ وجداني (الحواسُّ الباطنةُ) كالألم واللذة، والتوازن والقلق.. وعن كل هذه الصور توجد صور العلاقات والفوارق كالتشابه بين حلاوة العسل والدبس، والفوارق بينهما؛ فَتَمْثُل تلك الصُّوَر من الحافظة تلقائياً، أو يجترُّها من الذاكرة بعناء قليل أو كثير.. وكل هذا حسٌّ بسيط، ثم تزيد الخبرة حِسَّاً مركَّباً يكون بعملٍ حركي؛ فلا أعرف مقدار الوزن لقطن كثير وحجر قليل إلا بالميزان والمعادلة.. وأعرف بالحس المباشر شكل التفاحة ولونَها وطعمها وصورة داخلَها المُصْمَت، ولكنني لا أعرف قيمتها الغذائية إلا بتجارِب الأطباء.. وأعرف السنا بلونه وطعمه، ولا أعلم أثره في الإسهال إلا بالتجربة بشرطها كالكَمِّيَّة وحال المتعاطِي.. والعقل مخلوق ضعيف ليس خالقاً، بل منحه ربه القدرة على معرفة ما أذن الله له بمعرفته من الكون بواسطة المعرفةِ والعلمِ بالهُوِيَّات وعلاقاتها وفوارقها كما هي عليه؛ لأن ما هي عليه سنة الله حال ما هي عليه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ثم تبدأ من الأصل الأول الذي هو الهُوِيَّات بعلاقاتها وفوارقها الأحكامُ، والاستشرافُ إلى ما لم يُعرف بالحس وهو موجود يقيناً.. ولكنه استشرافٌ لمعرفةِ الصفة (إما من الأثر، وإما بخبرِ تواترٍ، وإما بخبرٍ من شرع معصوم)؛ من أجل العلم بحقيقة المعيَّن كالحكم الإثباتي الوجودي؛ فذلك حق، وكالحكم العدمي المنفيِّ وذلك باطلٌ حالة كونه عدماً، ونفيُ وجوده حق (والمحال عدمٌ أبداً).. والحكمُ الإمكانيُّ الاحتماليُّ اتوقُّفيُّ بغير مُلْك للتعيين أو النفي: لا يتحقَّق إلا بتحقُّق المقتضي وتخلُّف المانع.. وحكمُ الإثباتِ من قيمة الخير مثلُ الحكم بأن الشجاعة بتعقُّلٍ ضرورية لإرساءِ ما هو حق وخير في نفسه؛ فهي من قيمة الخير؛ فينتج الحكم من قيمة الخير بواسطة قيمة الحق.. ومثلُ ذلك أنَّ ضرورةَ سلوكِ الصدق، وضررِ الكذب، والتوقِّي من الضرر بالمعاريض ذاتِ المنادِح من الكذب: قِيمٌ خيريَّة بشهادة قيمة الحق.. وهدايةُ الشرع تفصيلاً تهدي إلى المسلك في ذلك.. وهكذا الحكمُ بالمنافع في الخير كالكرم، وبالمنافع في الشر كالخمر والميسر؛ فيأخذُ المنافعَ العليا بالمعادلات بين العاجل والآجل، والفردي والجماعي، وبين ما هو خير لا شرَّ فيه، وشرٌّ مسموم ببعض الخير المنتج الضرر كأُنْس العربيد.. ويحكم العقلُ بالحق والباطل من قيمة الجمال مضموناً وشكلاً؛ وحكمه الشكلي استقرائيٌّ فِئَويٌّ (أي ما هو جميل لدى فئة) بمواصفاته، وهو حكمٌ صادرٌ عن حالات الأنفس التي يتكوَّنُ منها الإحساسُ الباطني بما يصل إليه من حال الموضوع الخارجي المؤثِّر؛ فالحكم في البداية للعقل، وفي النهاية لتفصيل الشرع الذي جعل الله برهانَه من العقل والحس من جهة كونه حقَّاً وخيراً وجمالاً، أو بعكس ذلك، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان. مقالات أخرى للكاتب الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله (2) الأمانَةُ مَعَ اللُّغَةِ أمانَةٌ مَعَ شَرْعِ الله: ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ (5-5) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ في جَوْفِه: (4-5)
مشاركة :