لن تلحد إن شاء الله (4-4) - أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

  • 10/28/2022
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

قال أبو عبدالرحمن: إنّ المعرفة الحسية التي نعتبرها انعكاساً للواقع الخارجي: لا تنكر أنّ للحواس معطيات من نفسها لا تعكس الواقع، ونحن نستثني حالة خداع الحواس من المعرفة الحسية التي نؤمن بها، والمعرفة الحسية المبرأة من خداع الحواس: مشروطة بسلامة الحواس؛ فالعين السليمة المجردة تعكس العالم الخارجي، ولكنها لا تعكسه كما يعكسه المجهر.. والمثال الثاني يذهب (غيل مغولنر) أحد العلماء الطبيعيين في القرن التاسع عشر في كتاب له اسمه (فيزيولوجية البصريات) إلى أنّ الإحساسات رموز للظواهر الخارجية ينتفي عنها كل تشابه مع الأشياء التي تمثلها؛ وهذا يعني: أنّ الحس البشري لا يعكس الواقع؛ لأنه لا تشابه بين الإحساس والمحسوس، وعلى هذا أيضاً: يكون الإحساس مجرد رمز، ونظرية الرمز هذه تسمى (النظرية الهروغلوفية)، قال بها (بليخانوف)، ونحن لا نقول: أنّ إحساسنا ينقل لنا الأعيان في الخارج على صورة واحدة، ولا نقول أنه ينقل لنا صورة كل جانب من جوانب أحد الأعيان؛ بل هذا مرهون بطاقة الحس واستعداده وفي شريعة ربنا: نحن مكلفون في عبادتنا ومعاملتنا وفق الطاقة الحسية المشتركة بين المسلمين؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.. ونقول أيضاً أنّ حسنا مهما كانت طاقته يعكس لنا شيئاً موجوداً، لا يخلع على الأشياء صفات غير صفاتها؛ وإنما يعكس صورة الموجود؛ فرؤيتنا للقمر قرصاً أصفر بالعين المجردة انعكاس صحيح لصفحة القمر حال بعده.. ورؤيتنا له ودياناً وجبالا بالتليسكوب المكبر انعكاس صحيح لصفة القمر حال قربه؛ ولإيضاح هذه الحقيقة أحبّ أنْ أناقش صورتين من صور الخداع الحسي؛ ليكون ذلك أنموذجاً لنقاش كل صورة من صور الخداع الحسي: الصورة الأولى لنأخذ شيئين موجودين في غرفة واحدة في شروط واحدة: أحدهما معدني، والآخر خشبي؛ فسنجد أنّ اليد تحس بأنّ المعدني أبرد من الخشبي مع أنّ حرارتهما واحدة؛ فالإحساس باللمس خدعنا؛ فكيف نجعل الإحساس صورة للواقع؟.. ويجيب العلماء عن ذلك: بأنّ حرارة المعدن والخشب متساوية، بلا ريب إلا أنّ الخشب سيىء النقل لحرارة اليد بخلاف المعدن الذي ينقل الحرارة بسرعة؛ فإحساس جلدنا اللامس انعكاس للفارق بين سرعتي الحرارة، وعلى هذا يكون إحساسنا نقل لنا صورة من صور الواقع.. والصورة الثانية إذا وضعت يدي اليمنى في ماءٍ ساخن، ووضعت اليسرى في ماء بارد، ثم نقلتهما إلى ماء عادي: تبيّن لي: أنّ اليمنى تشكو البرودة مع أنها خرجت من المء الساخن، في حين أنّ اليسرى تشكو الحرارة مع أنها خرجت من الماء البارد؛ فالحواس نقلت لنا عكس الواقع فكيف تكون صورة له؟، ويجيب العلماء عن ذلك: بأنّ قانون الفيزياء يقرّر أنّ الحرارة تنتقل من الأجسام التي تتمتع بحرارة أعظم إلى الأجسام التي تتمتع بحرارة أدنى؛ فالحس نقل لنا صورة من صور الواقع.. انظر كتاب (المادية الدياليكتيكية) ص 164-165.. وهذا الواقع من خداع الحواس: لا يعني اطراحنا للحواس؛ وهي مصدر معرفتنا؛ بل يعني: استقراءها وتحليلها بشكل صحيح دقيق، ويعني: الإحاطة بقوانين الأعيان، وكل ذلك لا يتأتى إلا بعد استخدامنا للحواس؛ وهو: أنْ نربط معطياتها بنشاط التفكير عندنا، قال مؤلفو كتاب (المادية الدياليكتيكية ص 166): ((ليس هناك مجال للشك المبدئي بما تدلنا عليه أعضاء حواسنا، ولكن هذا لا يعني أنّ الإحساسات تعطي صورة دقيقة كل الدقة من الواقع الموضوعي في ذات اللحظة التي يصبح فيها هذا الواقع موضوع إدارك أعضاء حواسنا.. إنّ الصورة الأولية للأشياء المادية تتوضح وتغتني وتتكامل تدريجياً، على أساس الإدراكات المتكررة كثيراً، وعلى أساس عمل الفكر المتحقق منه بمختلف أعضاء الحواس، وعلى أساس نشاط الإنسان العلمي المتعدد الجوانب)). قال أبو عبدالرحمن: معرفتنا البشرية على قسمين: معرفة اضطرارية لا تفتقر إلى برهان، وهذه لها ثلاثة مصادر لا رابع لها ألبتة، وهي: الحس، وأوائل العقل التي لا تفتقر إلى الحس، وهي التي يسميها الإمام (أبو محمد ابن حزم) رحمه الله تعالى أوائل التمييز.. والإلهام ويدخل في ذلك الإشراقة الروحية، وهي رؤية القلب (ولك أنْ تعتبرها حاسة سادسة)؛ وهذه المعرفة موقوفة على من وجدها، ولا تتعدّى إلى الآخرين إلّا بالبرهان، ولا يبطلها أنْ هناك من يدعي الإلهام وهو كاذب؛ لأنّ هناك من يدعي الإلهام وهو صادق؛ وإنّما مشاهدة وقوعها صحة صدقها؛ فإذا كان وقوعها ذا أمد طويل؛ فالعلم بصدق المدّعي وسلامة عقلة جالب للإيمان بها.. والقسم الثاني معرفة تكسب بالبرهان وهذه مصدرها الحس وأوائل التمييز؛ لأنها تستمدّ برهانها منهما، أو من أحدهما.. وليس الإلهام مصدراً للمعرفة البرهانية؛ لأنّ معرفة الملهم خاصة به؛ فلا تتعدى غيره إلاّ ببرهان؛ ولأنّ صدق المعرفة الإلهامية متوقف على وقوعها.. والفرق بين المعرفتين أنّ المعرفة الاضطرارية تحصيل لحقيقة الشيء وحكمه، وأنّ المعرفة البرهانية تحصيل لحكم ذلك الشيء بعد العلم بحقيقته.. خذ مثال ذلك: من شرب (السنا) فقد عرف حكم (السنا) وهو الإسهال، وعرف حقيقة الإسهال، ولم يحتج إلى برهان.. ومن لم يشرب (السنا)، ولم يتناول مسهلاً قط، ولم يصب بإسهال قط فمعرفته البرهانية الاكتسابية؛ وهي أنّ (السنا) مسهّل؛ إنما هي بالوصف.. لا يعرف حقيقة الإسهال إلا بذلك.. ومعرفته هذه برهانية توصّل إليها بالبرهان، وهو مشاهدة الأثر والاستدلال به، مع ضرورة صدق الناقل.. والمعرفة البرهانية من ناحية الحكم والتصديق على قسمين: عقلية، وغير عقلية.. فالعقلية ما أقنع العقل من حس وخبر واستدلال، وغير العقلية ما لم يقنع به العقل: من حس خاطئ، وشرع مدسوس، وإشراقة كاذبة.. والمعرفة البرهانية هي قوانين العقل، وقوانين العقل على قسمين: قوانين اضطرارية؛ وهي التي سميناها (أوائل التمييز)؛ لأنها لا تفتقر إلى الحس.. وقوانين اكتسابية تستمد خبرتها من الحس كقولنا: ما كان تصوره حتمياً فوجوده حتمي؛ فهذا قانون استنبطه العقل بالتجربة الحسية، والملاحظ أنّ قوانين العقل الاكتسابية تستمد برهانها: إما من الحس، وإما من قوانين العقل الاضطرارية. قال أبو عبد الرحمن: وإذا ذكر لك العقل، والمراد به البرهان لا عموم العقل بملكاته؛ فالمراد به قوانين الاستدلال الاضطرارية والاكتسابية، وإذا ذكر لك الفكر؛ فالمراد به هيئة الاحتكام إلى هذه القوانين، وإذا ذكر لك الذكاء والنباهة والذهن؛ فالمراد بكل ذلك ملكة الإنسان وقوة قواه النفسية.. ولا يحصي معرفة العقل الاكتسابية إلا خالق الخلق سبحانه، ومن مجامع المعارف الاكتسابية الشرع القائم على البراهين المحسوسة وعلى القوانين الاضطرارية؛ فنصوصه باللغة مصدر للبرهان.. ومنها الخبر الذي يثبت به التاريخ والأنساب والحقوق؛ فيستدل العقل من الحس ومن القوانين الاضطرارية على أنّ الخبر المتواتر حق.. ومنها علم الحساب فهو مصدر للبرهان؛ لأنه ثابت بالحس وبالقوانين الاضطرارية؛ فكانت قواعد الحساب وأصوله مصدراً للبرهان.. وهكذا جميع العلوم والمعارف البشرية. قال أبو عبدالرحمن: وبناء على أنّ المعارف إمّا عقلية، وإما غير عقلية: فإنّ معارف العقل متنوعة ؛ فمنها عقليّ بالشرع، وعقلي بالحس، وعقلي باللغة.. وغير العقلي يكون كذلك.. ويكون غير عقلي لكون الحس كاذباً، أو لكون الشرع مدسوساً، أو لكون فهمنا خاطئاً؛ وإذن فما دام الباعث للفلسفة معرفة الحقيقة؛ وهي لا تجتلب إلا عن طريق نظرية المعرفة؛ فلا بد أنْ تكون نظرية المعرفة هي الفلسفة، وهي العلم التأصيلي للمعارف. قال أبو عبد الرحمن: يقول مجموعة من الأساتذة السوفيت في كتاب لهم اسمه (المادية الديالكتيكية) (إن تفكيرنا تطور)؛ وهذا بناء على الإعجاز العلمي الذي حققه السوفيت وهذا التطور يسمونه (الديالكتيك الذاتي) وتقول كيف تطور تفكيرنا؟؛ فيقولون إنه انعكاس للديالكتيك الموضوعي، ويراد بالموضوعي العالم خارج الذات الحاسة العاقلة (العالم المادي) ولقد تطورت ظواهر العالم المادي فتطور تفكيرنا تبعا لذلك، وهذا التطور يبنونه على خلفيات (الديالكتيك التاريخي) كان الإنسان قرداً فأصبح مفكراً، تطور الديالكتيك الذاتي والتاريخي والمادي على أنقاض صراع المتناقضات والأضداد فكان البقاء للأصلح أي المتطور.. ولا ندري هل سيطبقون هذه الظنون على الحزب الشيوعي السوفيتي أم لا؟ هل تطورت من اللينينية إلى المادية؟ هل تطورت الشيوعية من ماركس إلى لينين؟ وهل سيفضى صراع المتناقضات إلى ما هو أصلح من الشيوعية واشد تطورا؟ كل هذه الظنون علمها عند الله؛ وإنما نريد هنا أن تفكيرنا في العصر الحديث لم يتطور ولكنه استراح وأضرب المثال لذلك بعاملين استعملا آلتين بدائيتين كالمعول متكافئتين في قوتهما وصنعهما فاستعمل احدهما المعول الأول في حفر بئر لم يتجاوز عمقها أكثر من متر لأنه صخور وشظايا ثم مات العامل وانكسر المعول؛ فجاء عامل أخر يكافئ العامل السابق في قدرته ومهارته فحفر سبعة أمتار في وقت أوجز ولم ينكسر المعول وكانت الأرض هشة فهل نقول أن المعول تطور وإن القدرة البشرية تطورت؟ كلا.. إنما كان العامل الثاني متمما لمسيرة العامل الأول ولولا ذلك لأنفق ما أنفقه الأول من جهد ووقت وخسارة، وتفكيرنا اليوم لم يتطور بحيث يصل إلى الحقيقة مباشرة أو في وقت قصير لأنه تفكير لا يوجد مثله عند الإسلاف؛ وإنما كان تفكيرنا اليوم لا يزيد عن تفكير العباقرة في الأمس غاية ما هنالك أن مفكر الأمس اختصر الطريق بمليون فرض خاطئ ومليون تجربة غير ناجحة؛ فاستغنى الفكر الحديث عن اتخاذ هذه المحاولات، وبرهان آخر وهو أن أعظم مخترع في العصر الحديث لا يقال إنه أذكى العالم إلا بالنسبة لأفراد، أو مادة علم، وليس بالنسبة للأجيال السالفة.. إنّ أعظم مخترع لآلة أو أسبق الناس إلى اكتشاف قانون: لا يملك بذلك أنه أذكى من الخليل بن أحمد، أو ابن تيمية وإنما الاختلاف في مجال العمل الفكري.. أما تطور الخلق فيعني زيادته وتعدد صوره والله يزيد في الخلق ما يشاء ويخلق ما لا نعلم والله خاق الخلق وما صنعوا؛ إلا أن الفكر الحديث لم يخلق المادة ولم يخلق قوانينها، ولم يرتب النتائج على الأسباب، وإنما اكتشف بإرادة الله مادة مخلوقة واكتشف قانوناً مخلوقاً؛ واكتشف علاقات مخلوقة، وإلى لقاءٍ عاجل إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-

مشاركة :