جرت العادة أن يُمثّل الحب مرحلة من مراحل العمر بشكل أو بآخر إلاّ أن - الاستثناء النبيل المؤثر هنا لهذه القاعدة هو أن يكون هناك حب لا تنهيه آهة اليأس الأبدية لفقد المحبوب بلا أمل في رجوعه للأبد بعد الموت، ومع كل هذا لا يأفل الحب مع أفول المحبوب ولا تطوى صفحات ذكرياته مع مرور الأيام والليالي بكل ما يتخللها من أقدار.. وأياً كانت الأسباب التي أفضت لهذا الاستثناء إن هي أصالة مشاعر أو ونبل ورقي ورهافة حس لا يوصف مداها أو ما سوى ذلك بالتحديد فإن نماذج أثيرة من قصائد الشعراء والشاعرات جسّدت الإبقاء على هذا الحب إلى مالا نهاية بصورة نادرة تستحق الإبقاء عليها في المكان الذي لا يليق إلا بجمال مدلولات معانيها احتكاماً إلى درر الشعر الأصيل يقول الشاعر نزار قباني بعد مقتل زوجته وحبيبة قلبه «بلقيس»: بلقيس.. ياعطراََ بذاكرتي.. وياقبراََ يسافر في الغمام.. إلى أن قال: بلقيس: ما أنت التي تتكررين.. (فما لبلقيس اثنتان).. ومن القصائد المؤثرة التي أوردها عبدالله بن محمد بن ردّاس -رحمه الله - في كتابه (شاعرات من البادية -الجزء الأول) قصيدة -هجينية- للشاعرة «كنه الشمرية» وهي تعاهد نفسها بعد موت زوجها عبدالله بن جحفل الرمالي الشمري على أن تفي لذكراه إلى ما بعد موتها -رحمهما الله: يارجم ماشفت عبدالله مانط بك عقب الإدماسِ يا رجم أنا سايلك باللّه أي المُراجَا والإياسِ (حلفت عن كل خلق الله أرجيه إذا حِشروا النّاسِ) ومن قصيدة في ذاكرتي من سنين طويلة للشاعر الأمير عبدالله الفيصل بيت يحمل من الصدق ما يرتقي بنا عالياًَ عن نظرة من يرون أن في جمال الشكل أو ما سواه من توافه الأمور آلية (إحلال وإبدال) بين حب كان في العمر بالأمس وما استجد بعده اليوم من حب حديث عهد بالقلب للأسف. بل يقول -رحمه الله - أن محاسن من بعده أراها مساوئ حتى بعد أن رحل المحبوب من هذه الدنيا (محاسن الخفرات غيره مساوي) وفي تصوري أن هذا هو الحب الصادق الذي لا يملك المرهف الحسّاس إلا الوقوف عند جمال معناه (الصمت في حرم الجمال جمال): وين العشير اللّي يحبك وتغليه اللّي على حبل الموده يلاوي يرجيك في بعدك ولي غاب ترجيه لي غاب تسهر في فراشك شقاوي يسقيك من كاس المحبه وتسقيه خلٍ على بعده له القلب هاوي هذاك والله خابره وين هو فيه يا عونة الله بين الأجداث ثاوي يوم البخت قايم وربي مخلّيه (ومن فارق الدنيا) وقلبي عناوي العين عقبه مابقا من تراعيه محاسن الخفرات غيره مساوي ليته رثانا ما نظمنا مراثيه غديت عقبه بين ربعي خلاوي