لا يتوقف الفن المعاصر عند الأداء أو العرض في القاعات التقليدية وبالأشكال المتعارف عليها، ولا يسعى إلى تكرار الجماليات المعهودة، بل هو مفتوح على إمكانات مختلفة جذريا، ويمكنك أن تجده في أي شكل غير متوقع وفي أي مكان، ولو على الشاطئ، مثلما فعل الفنان ألبريشت فيرش. لينارت ستوك إيمدن (ألمانيا) - قد يشعر زوار شاطئ على جزيرة سبيكروج الألمانية، الكائنة في بحر الشمال بالدهشة، عندما يرون رجلا يرتدي ملابس رسمية، يجلس على مكتب موضوع على الرمال محاطا بأرفف وخزانة ملفات مع كومة من الأوراق ترفرف مع هبات النسيم، ووسط المصطافين، والراغبين في تمضية العطلات، نصب ألبريشت فيرش مكتبا يشبه إلى حد كبير المكاتب التابعة للهيئات الحكومية الألمانية. وتكتمل مواصفات المكتب وأدواته، فتم تزيينه بأداة لتثقيب الأوراق وحامل للأقلام، وآلة كاتبة والعشرات من الأختام، ولا عجب إذن من أن مكتبه يحمل لافتة صغيرة لا تكاد ترى، مكتوبا عليها “موظف الشهر”. وأثار مكتب فيرش بالطبع العديد من التساؤلات. أداء تمثيلي فنان أداء تمثيلي وضع مكتبا على الشاطئ للجمع بين واقعين منفصلين العالم العملي وعالم الاسترخاء والترفيه تأتي كل صباح مجموعة صغيرة من المصطافين، وتتحلق حول مكتب فيرش، بينما هو ينظم ملفاته ويرتبها داخل أدراج مكتبه. ووجهت له امرأة سؤالا “هل أنت مسؤول تسجيل الشهادات والوثائق؟”. وكان فيرش يرتدي حلة داكنة اللون ورباط عنق. ليرد فيرش قائلا “إنني موظف سجلات أعمل على الشواطئ، وقمت بتزويج خمسة شركاء، حتى بالرغم من أنني لست مخولا بأن أفعل ذلك، بل ليست لدي حتى الاستمارات اللازمة لتوثيق الزواج”. في ألمانيا المشهورة بإجراءتها الروتينية المنتشرة، تسبب هذا المكتب في إحداث بعض الارتباك والبلبلة، بل الذعر بين رواد الشاطئ. وفي الحقيقة ليس فيرش سوى فنان أداء تمثيلي، ووضع المكتب على الشاطئ، في محاولة للجمع بين واقعين منفصلين، العالم العملي الذي يسوده العمل، وعالم الاسترخاء والترفيه، المتمثل في تمضية العطلات على مثل هذا الشاطئ. وهذا الأداء التمثيلي يتجاوز معنى أو عبثية الإجراءات الروتينية، ويقول فيرش إننا نادرا ما نستكشف الأسئلة المهمة والحقيقة في الحياة. ولمواجهة هذا الوضع، ابتكر فيرش الاستمارات الخاصة به، ليدون رواد الشاطئ البيانات المدرجة فيها، ويدعوهم للتفكر في هذه المجالات المهملة من حياتهم والتعامل معها. ويقول فيرش لرواد الشاطئ “من يريد أن يدون البيانات في هذه الاستمارة؟ توجد واحدة لكل فرد”، ويضيف هذه استمارة “السعادة والبهجة”، لقياس “مدى شعورك بالسعادة” وفقا “لقانون تكوين السعادة”. ومن بين الأسئلة المدرجة في الاستمارة التي تبدو كأنها رسمية، هل هذا الشعور ممكنا؟ و”ما هي رغباتك؟” و”ما الذي تشعر به في هذه اللحظة؟”. ويضيف فيرش “هذه أسئلة لا تراها في الواقع في الاستمارات الرسمية، وأريد أن أوجه أسئلة مهمة، وأيضا تتعلق بما يطرحه الناس على أنفسهم من تساؤلات، وعندما يمضي الناس عطلة على الشواطئ، يكونون في حالة مزاجية جيدة، تساعدهم على التفكير في إجابات لهذه الأسئلة”. ويتم تمويل مشروع فيرش من خلال منحة، تقدمها جزيرة سبيكروج الكائنة في بحر الشمال، لفنان تختاره كل عام. وبرنامج المنح الشاطئي هذا، يدعم المشاريع الفنية في الأماكن العامة، والتي تعالج قضايا اجتماعية أو بيئية. ويقول روبن فرانز عضو مجلس إدارة منتجع الجزيرة، “نحن نبحث عن القضايا، التي تكون لها أيضا علاقة بالجزيرة”. فن على الشاطئ هل الاستمارة رسمية؟ هل الاستمارة رسمية؟ في إطار هذا البرنامج، يرسل نحو 80 فنانا، كل عام طلبات للمشاركة فيه، ويتم تقييمهم من جانب مجموعة من المحكمين من سكان الجزيرة والفنانين والعلماء. ويقع مخيم البرنامج في الكثبان الرملية، على مسافة نحو ثلاثة كيلومترات من قرية الجزيرة، وهو بمثابة منتجع ومكان لإلهام الفنانين. ويعرب هانز هيلمكه، النحات والمشارك في مبادرة المشروع، عن ثقته في أن الإقامة داخل خيمة تربط الفنانين بقوة أكبر بالجزيرة، مقارنة بالإقامة في شقة أوبيت مخصص لقضاء العطلات. وربما يتساءل البعض عما إذا كانت هناك حاجة إلى الفن على الشاطئ، ويرد هيلمكه بقوله “إنه مسألة ضرورية، وهو جزء من الحياة الثقافية”. ويضيف “سواء نظر الناس إلى الفن على أنه مسألة جذابة أو لا ضرورة لها، فإنهم على الأقل سيفكرون ويتحدثون عنه، وهذا أمر رائع”. ويعرب أولئك الذين يقضون العطلات عن تقديرهم لعمل فيرش، ويقول يورجن كونيج الموظف في هيئة حكومة بولاية ساكسونيا، أثناء تمضيته عطلة بالجزيرة، إن المكتب الصغير الذي نصبه فيرش على الشاطئ، يبدو “متقادما” وليس رقميا بالكامل، ولا يختلف عن المكاتب التي لا تزال موجودة في الوكالات العامة الألمانية كما قد يقول البعض، ولكنه يؤدي وظيفته. ويحب كونيج أن يرى الفن في الأماكن التي لا يتوقع وجوده فيها، ويقول بعد أن يلتقط استمارة بيانات من فوق المكتب، “إن هذا المكتب عبثي تماما، ولكنني أحب ما يمثله من دعابة وفكاهة”. وعن وظيفة كونيج كموظف حكومي يقتفي الإجراءات الروتينية، يقول ثمة عناصر للمرح أيضا في هذه الوظيفة، ويضيف “إن كثيرا من العمل يتسم بالجدية، ولكنه يكون أكثر سهولة، إذا تعاملت مع الأمور بروح الدعابة”. بينما يقول فيرش إن الاستجابة لوجود مكتبه على الشاطئ متباينة للغاية، فكل يوم تقضيه على الرمال يختلف عن اليوم الذي قبله، ويضيف “يعتقد الكثير من الناس أنه مكتب حقيقي”. بينما يتخيل البعض أنه قس، ويعتقد البعض الآخر أنه وكيل مكتب لتسويق العقارات، ويذهب البعض بعيدا إلى الاعتقاد بأنه عمدة الجزيرة.
مشاركة :