تطرأ على الكثير من المثقفين تحولات وتبدلات في توجهاتهم الفكرية، وإعادة لتعريف معتقداتهم ومبادئهم. وغالبا ما تكون هذه التحولات ناجمة عن تجارب شخصية أو تغيرات اجتماعية، مما يؤدي إلى تبدل في المنظور، ومن ثم انتهاج أسلوب جديد في التفكير. وبسبب اختلاف وجهات نظر المثقفين وطرائقهم وقيمهم وأهدافهم، فقد يمرون بمراحل تطور مختلفة كذلك، اعتمادا على ظروفهم الشخصية والتاريخية والبيئية. ومن خلال دراسة لمراحل بعض المثقفين، اشتركوا فيها بنموذج متقارب لمراحل المثقف، يستند إلى مفاهيم التقليد ثم الاستقلال وصولا إلى الحكمة. ففي المرحلة الأولى وهي التقليد، يتأثر المثقف بالأفكار والمعتقدات والقيم السائدة في مجتمعه وثقافته. فيقبل سلطة المؤسسات الفكرية العريقة، كما قد يتبع الشخصيات البارزة، كالمعلمين والمرشدين والرياديين. فلا يشكك أو يتحدى الوضع الراهن، بل يتوافق معه ويحاول الاندماج فيه. وفي مرحلة التقليد يستفيد المثقف من إرشاد ودعم وتقدير مجتمعه، ويكتسب كذلك قاعدة صلبة من المعرفة والمهارات، إلى جانب الشعور بالهوية والانتماء. وقد يواجه بعض القيود، مثل الجمود والتحيز. هذا الأمر يسهم في عدم تطويره لصوته ورؤيته وقيمه الخاصة. كما قد يفوت فرصة استكشاف وجهات نظر أخرى وخِبرات وإمكانيات مُغايِرة. أما المرحلة الثانية للمثقف وهي الاستقلال، فينفصل فيها عن تأثير التقليد ويسعى لإرساء استقلاليته وأصالته. وقد يطرح تساؤلات أو تحديا لسلطة المؤسسات الفكرية العريقة. كما قد يرفض أو ينقد بعض الشخصيات البارزة فكريا. وفي بعض الحالات قد لا يتوافق مع الوضع الراهن، بل يعارضه. فيستفيد المثقف خلال مرحلة الاستقلال من حرية وإبداع وتنوع فرديته الخاصة، بالإضافة إلى شعور الاعتماد على الذات والثقة بالنفس. وبالمقابل، فقد يواجه بعض التحديات، مثل العزلة والاغتراب وخوض الصراعات. ويزداد الأمر سوءا حينما يفقد إرشاد ودعم وتقدير مجتمعه. كما قد يواجه مقاومة وسوء فهم من الآخرين. أما مرحلة الحكمة فيتجاوز فيها المثقف ثنائية التقليد والاستقلال ويسعى لتحقيق التوازن والتناغم بينهما. فيحترم ويقدر سلطة المؤسسات، لكنه يدرك أيضا قيودها ونواقصها. كما قد يتعلم من الشخصيات البارزة ويحترمها. وقد لا يتوافق مع الوضع الراهن، بل يحاول تحويله وإحداث فارق بطرق أكثر حصافة. فيستفيد المثقف في مرحلة الحكمة من تكامل وتوليف وتطور معرفته ومهاراته، بالإضافة إى وجهات نظره وقيمه، فينمي أيضا شعورا بالتواضع والرحمة والمسؤولية، إلى جانب رؤية تهتم بالصالح العام. ومع ذلك، فقد يواجه بعض الصعوبات، مثل التعقيد والغموض وعدم اليقين، تجعله لا يملك إجابة واضحة أو سهلة لمشاكل المجتمع، مما يضطره للتأقلم مع تحديات وتغيرات ظروفه الشخصية وظروف بيئته وزمنه الذي يعيش فيه. أحد أبرز الأمثلة على التحول الفكري هو روجيه جارودي، فقد مرت أطروحاته، بثلاثة مراحل زمنية وفكرية. فالمرحلة الأولى كانت الالتزام؛ انضم خلالها إلى المقاومة الفرنسية والحزب الشيوعي، وناضل من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. أما المرحلة الثانية فقد كانت النقد؛ شكك من خلالها في عقائد وأخطاء الماركسية، وسعى إلى رؤية أكثر إنسانية وديمقراطية من الاشتراكية. وفي المرحلة الثالثة وهي الحوار؛ فقد اعتنق الإسلام وانخرط في حوار بين الأديان والثقافات، ودعا إلى السلام والتعايش. ولم يبتعد كثيرا عن ذلك مواطنه، جان بول سارتر، فمن خلال مرحلته الفكرية الأولى وهي الوجودية المبكرة، ركز على الفرد والحرية والمسؤولية ونظرية الوجود والعدم، أما المرحلة الثانية فكانت الوجودية السياسية، اهتم من خلالها بالالتزام السياسي والعدالة الاجتماعية والتعاون بين الوجودية والشيوعية، والمرحلة الثالثة كانت الوجودية المتأخرة، والتي طور من خلالها فلسفة أكثر إنسانية، تعتمد على ثلاث مرتكزات وهي: الحرية والمسؤولية؛ الإنسانية والتمرد؛ الالتزام السياسي والأخلاقي. وهذه الفلسفة لا تزال تحظى بتأثير كبير حتى يومنا هذا. وفي حالة نعوم تشومسكي كانت المرحلة الأولى اللسانيات البنيوية، قدم من خلالها نظرية جديدة للنحو، تسمى نظرية النحو التوليدي التحويلي. وتستند هذه النظرية إلى فكرة أن اللغة البشرية هي نظام توليدي، يمكن من خلاله إنتاج جميع الجمل النحوية الممكنة. وكانت المرحلة الثانية الفلسفة السياسية، بدأ من خلالها في تطوير فلسفته السياسية، التي تركز على نقد الهيمنة الأمريكية والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية من خلال كتاب «البنية العميقة للنظام الإمبريالي». أما المرحلة الثالثة فكانت النظرية النقدية، بدأ من خلالها في تطوير نظرية نقدية، تركز على دراسة العلاقة بين اللغة والسلطة، ففي كتابه «السلطة واللغة» ذكر أن اللغة يمكن استخدامها لتعزيز الهيمنة الاجتماعية والسياسية. تُبرز هذه الأمثلة الثلاث، طبيعة التحول الفكري. ففي كل حالة، تم تحدي معتقدات ومبادئ المثقف الأصلية من خلال تجارب جديدة أو ظروف متغيرة، مما أدى إلى إعادة تقييم الأفكار ومن ثم التحول في التوجه الفكري. ومع ذلك، ليست هذه التحولات دائما سهلة أو مباشرة، فقد تواجه مقاومة أو انتقاد من الآخرين. وأحد أهم التحديات الرئيسية للتحول الفكري هو خطر الاتهام بعدم الاتساق أو حتى النفاق. فعندما يغير المثقف أفكاره أو مبادئه، فقد يتعرض للانتقاد بسبب التخلي عن التزاماته السابقة. الطبيعة الإنسانية لديها القابلية للتغير، والسعي نحو الأفضل، يقول الله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. هذا التغيير لابد أن يكون نابعا من الذات. وحينما يكون التحول الفكري للإنسان بدون هادٍ أو دليل من خالقه، يهديه إلى سواء السبيل، فلن يكون إلا انتقالا من وهم إلى سراب، يقول الله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، ويقول ({فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}. فالإحاطة الفكرية لدى البشر، قاصرة ومحدودة بمعطيات ناقصة، تحتاج من يكملها عبر وحي إلهي يرشدها إلى الطريق القويم، يقول سبحانه وتعالى {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَم}.
مشاركة :