وقفاتٌ مع رواية «وقعة الباب العلا» للكاتب السعودي إبراهيم المكرمي - حامد أحمد الشريف

  • 12/22/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ماذا كان يقصد «المكرمي»، في إهدائه العجيب، من اعتذاره إلى أبنائه كونه لم يأتِ وفق هواهم؟ وهل كان بحاجةٍ لإهدائهم هذا الكتاب وتأطيره بالأسف، إن لم يكن أبًا صالحًا؟ ألم يكن بوسعه استخدام الإهداء كبطاقة اعتذارٍ لهم فقط، من دون الحاجة لإظهار السوء الذي كان عليه واستوجب تذكيرهم به والاعتذار عنه؟ ولكن، مهلًا، من أخبره بذلك؟ فليس شرطًا أن يتّفق إحساسه مع إحساس أبنائه، طالما أنّنا شبه موقنين أنّ الأبناء لن يخبروه بالضرورة به، بل قد يُفتَنون بصنيعه غافلين عن السوء الذي قد يعتريه، وأكثر من ذلك، قد يكون مصدر هوسهم به؛ فالحكم بين الصحّ والخطأ، والخير والشرّ، أمرٌ نسبيّ إذا ما نظرنا إليها من زاوية الآخرين، إذ ليس شرطًا أن يكون الخير هو ما نعتقده، وكذلك الشرّ؛ لذلك، قد يكون أبناءُ المكرمي معجبين بوالدهم ويُعلون من شأنه للسبب نفسه الذي دفعه للاعتذار منهم، وبالتالي فاعتذاره لا معنى له.كما قد يكون ما توقّعه صحيحًا، ويستدعي اعتذاره منهم وطلبه الصفح إذ جعلهم يعيشون تلك الأحاسيس التي دفعته للندم على ما فات، والتبرُّؤ من سلوكيّاتٍ تضرّروا منها. في وقت قد ينتابهم هذا الإحساس بالتبرُّم من سطوة والدهم بالأخصّ في سِنيِّ طفولتهم الأولى عندما يكون هوى أنفسهم هو الفيصل في ما يريدون وما لا يريدون؛ ما قد يشعرهم، وإن مؤقَّتًا، بالكره له، أو الغضب منه، وتمنّي غيره أبًا لهم. يحدث ذلك إن كان صارمًا يبحث عن مصالحهم، في ظلّ ما يرونه من حرّيّة التصرُّف التي ينعم بها غيرهم، ما يجعلهم يرفضون الحياة الجماعيّة ويتمنّون الفرديّة، قبل أن ينضجوا ويعودوا مجدّدًا للاندفاع بقوّةٍ نحو الحياة الاجتماعيّة. لكنّهم، في كلّ الأحوال، لن يخبروه بما جعلهم يعيشوه من صراع، ربّما خشيةً منه أو إشفاقًا عليه، أو لأنّهم جُبلوا على السمع والطاعة والانضواء تحت راية الجماعة التي نراها هنا في الأسرة. ولربّما منحتهم فطرتهم السويّة ذلك الإحساس بالانتماء لوالديهم، وزرعت في قلوبهم محبَّتهم لهم والخوف منهم في آن، واتّباعهم المطلَق لهم دون تبصُّر. يبدو أنّ «إبراهيم المكرمي» كان مدركًا لكلّ هذه الأمور المتشعِّبة، لذا قرّر الاعتذار من أبنائه، وإن لم يصرّحوا له بمشاعرهم، أو لنقل، إنّه لم يكن بحاجة لهذا التصريح طالما كان اعتذاره عن أشياء قد لا يعلمون بها، ولن يدركوها مطلقًا. وكلّ ذلك البُعد الفلسفي العميق جدًّا انعكس على الرواية، حيث نجد ضمير المتكلّم المتعدّد، أكان الفتى أو الفتاة اللذَيْن يرويان لنا هذه الحكاية، والراوي العليم الذي سمعهما وساهمَ في سرد الأحداث بكلّ تشعّباتها وتفصيلاتها، بحيث يتصدّى ثلاثتهم للحديث نيابةً عن الآخرين، ويجزمون بصدق توقّعاتهم، أو يتحدّثون عن أشياءَ تخصُّهم وحدهم ولا يعلم بها الآخرون. ولعلّ الكاتب أراد من خلال الإهداء، تنبيهَنا مبكّرًا، لهذا النهج المبتكَر الذي اختاره لروايته «وقعة الباب العَلا»، الصادرة عن دار مركز الأدب العربي، والتي تقع في 191 صفحة من القطْع المتوسّط. وهو يقول في الإهداء، وقد أيقن أنّ ما سرده قد يُظهر بؤرةَ الصراع الحقيقيّ الذي أقحمهم فيه دون إرادتهم، وكان يتمنّى لو استطاع إنقاذهم منه، في قوله: «لأبنائي حسين ووسن وراشد... آسف لأنّني لم أكن ذلك الأب الذي تمنّيتموه..» وكأنّه أراد عدمَ إرهاقهم، وتخليصَهم من عبء الانتماء لجماعة الأسرة أو المذهب أو حتّى القبيلة التي اختارها لهم دون استشارتهم وموافقتهم، وإعفاءَهم من هذا الثقل الذي قد يقصم ظهورهم، وهم لا يجدون مهربًا منها جميعًا رغم عدم قناعتهم بها، أو حتّى عدم قناعتهم به شخصيًّا، وربّما تَرَكَ لهم الباب مشرَّعًا لاختيار طريقهم بأنفسهم، حتّى يتخلّص، على الأقلّ، من عقدة الذنب. ولعلّ هذا الفهم يتأكّد لدينا عندما نُبحر في تتبُّع السرد، انطلاقًا من الفصل الأوّل الذي عنونه بـ»الوسواس»، فصال وجال فيه مع مثل هذه الوساوس التي رافقت البطل وهو يتحدّث مع رفيقه في زنزانته، عندما كانت الهواجس والتأويلات هي السقف الذي اجتمعوا تحته. وقد تصوّرَ أنّ محدِّثَه سيقدِّم له النصيحة التي يحبّها، في إشارته الجميلة إلى نصحه له بالتزام الجماعة، وتوقّعه أنّه سيُبحر معه في الاستقلاليّة لو شعر أنّه يرغب فيها وينتهجها؛ في حين أنّه كان ليتجنّب هذه الوقفة الطويلة لو فتح الرسالة التي أتته مع خفير السجن، واتّضح في النهاية أنّها من عمّته، تحاول فيها إعادته إلى السجن الكبير الذي فرح كثيرًا لهروبه منه. ما يعني أنّ كلّ الهواجس التي شعر بها، والحوارات التي أدارها مع نفسه وحمّلها لمحدّثه، ما كانت لتكون لو أتت الحياة وفق اختياراته هو... وبذلك تُوقفنا هذه السرديّة الجميلة أمام فلسفاتٍ نفسيّةٍ عميقة - كما أسلفت - س تكون هي المظلّة التي سترافقنا حتّى النهاية. ومع تقدُّم السرد نلمس إبداع الكاتب في خلق الصراع وتناميه وذيوعه، واستخدامه تقنيّة الـ»فلاش باك» بطريقةٍ مبتكرة ورائعة، معتمدًا أسلوبَ نثرِ الأحداث وتفريقِها، ثمّ لملمتِها مرّةً أخرى وامتطائها، في طريقنا نحو نهاية الحكاية التي لن تنفكَّ شفرتها إلّا مع آخر كلمة نقرأُها. وإن بدا لي ظاهرًا أنّ السرد لن يبتعد عن الفكرة المحوريّة التي قال بها الإهداء، وبيّنها الفصل الأوّل، وظهرت على ظهر الكتاب، عندما حاول السجين تقديم نصيحته للفتى بلزوم الجماعة، في قوله: «الأفضل ألّا تسير وحيدًا حتّى في أكثر الأيّام سطوعًا وإشراقًا... إلخ». وهو ما حدث بالفعل عندما وجدنا، خلال سيرورة الأحداث، أنّنا أمام حالةٍ من صراع الأيديولوجيّات الدينيّة التي تلعب على وتر الجماعة، وتقدّسها، وتقتل من يحاول الخروج عليها؛ في وقتٍ قد نجد أنّ الجماعة، كفكرةٍ وكتطبيق، ربّما تكون السبب في هلاكنا. وهو ما يناقشه هذا العمل الإبداعيّ الفلسفيّ. لقد كان جميلًا وذكيًّا وفي غاية الصعوبة، إسناد الرواية لطفلٍ وطفلةٍ صغيرَيْن، والحديث بلسان طفل، - اعتمادًا على فكره البسيط غير الناضج - وتقمُّص دوره، واستنطاقه، وإظهار الأفكار على لسانه بما يتواءم مع سنّه؛ فالطفل، كما هو معلوم، يمثّل حقبةً عمريّةً لها خصوصيّتها في حواراتها وأفكارها وثقافتها وأفعالها وردود أفعالها... لا سيّما أنّ الطفل يجسِّد الصراع الحقيقيّ دون تدخُّلات أو «رتوش» تزيّفه، فهو ينقل الصورة كما هي، بالصدق المنشود؛ وهو ما فعله «المكرمي» عندما نقل لنا صراع الأقلّيّات الدينيّة والحرب الطاحنة التي تدور بينها، من خلال طفلٍ صغير وجد نفسه ينتمي إلى أيديولوجيّة معيّنة، تماهيًا مع رغبة والدَيْه أو مجتمعه، فعاش الصراع الحقيقيّ بكلّ تفصيلاته الدقيقة، وهو يرصد الرفض والمواجهة اللّذين يجدهما من الآخرين، دون علمه بسببهما وأبعادهما، في وقتٍ كانت لديه رغبةٌ حقيقيّة في أن يعيشَ الحياة بصورتها الجميلة، بعيدًا عن كلّ هذه المنغِّصات التي لا يفهمها، وربّما لا يؤمن بها. فهاجسُ الطفل أبعد ما يكون عن هذه الخنادق الإسمنتيّة القاتلة، وغاية ما يتمنّاه هو تكوين علاقاتٍ جيّدة مع أقرانه، وإظهار مهاراته في الحديث واللّعب، وبثّ الأفكار الشاطحة التي ستُكسبه مزيدًا من الأصدقاء، دون اهتمامه بانتماءاتهم العرقيّة أو الدينيّة أو القبليّة. لكنّ ذلك لا يحدث، للأسف، في معظم المجتمعات، ويبقى الأطفالُ وقودَ الصراعات وأكثر من يكتوي بنارها. إذًا، نجد أنّ هذا الطفل أو الفتى قد أُقحم في نزاعٍ كبير يفوقُ عمرَه، وزُجَّ في أتون صراعٍ وجوديّ لا تُعرف أسبابُه ولا أبعادُه، ولا يملك وسيلةً للنجاة بنفسه منه؛ فأبواه اختارا أن يبعداه عن هذا المعترك العقائديّ نظرًا لصعوبة إفهامه حقيقةَ الأمر وهو في هذه السنّ المبكِّرة، وكانا يظنّان أنّ الأطراف الأخرى ستوجّه سهامها القاتلة نحوهما فقط، ولن تستهدفه بكرهها وحربها الشعواء... بينما حدث العكس، وأُلقي به في أتون المعركة، واختار الطفلُ بسذاجةٍ المواجهةَ وحدَه، وخوضَ غمارِ كلِّ هذه الصراعات، ظنًّا منه أنّ باستطاعته تجاوزَها بمفرده؛ وبالطبع لم يدر في خَلَده أنّ القوم سيحمِّلونه كلّ رزايا هذا الاختلاف العقائديّ، ولن يرحموا طفولته وفطرته السويّة. إن هناك فرقًا كبيرًا بين المودّة والبغض من جهة، والعدل والإحسان والظلم من جهة أخرى، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّه يَأْمُر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر وَالْبَغْي يَعِظكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (النحل: 90) فالمودّة تعني المشاعر القلبيّة التي لنا مطلق الحرّيّة في صرفها بالاتّجاه الذي نريده، وما قد تأمرنا به شرائعنا. بينما الإحسان يعني المعاشرة السلوكيّة والاحترام وتبادل المنفعة. ويأتي العدل وعدم الظلم كإطار يغلِّف سلوكيّاتنا جميعها، فيمنعنا عن بخس الآخرين حقَّهم، مهما اختلفنا معهم، إلّا إن قاتلونا واعتدوا علينا وكنّا في حالة دفاع عن الضروريّات الخمس المعروفة، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وفي الأمر تفريعاتٌ شرعيّةٌ متعدّدة ليس هذا أوانها ومكانها. وما يعنينا من ذلك كلّه أنّه ينبغي أن يكون هذا ديدننا كبشرٍ، في كلّ تعاملاتنا الإنسانيّة، فلا ظلمَ ولا تعدّيَ بيننا مهما كانت اختلافاتُنا. بالتأكيد هذه الصورة المثاليّة لا تحدث على أرض الواقع، فالصراعات بقيت هي الساحة التي يجتمع فيها أبناء آدم على مدار التاريخ، كما نرى الآن في غزة؛ فاليهود يعلنون هذا الرفض للآخر صراحةً، وهم يسعون بقضِّهم وقضيضهم لاجتثاث الفلسطينيّين واستبدالهم باليهود. وهي الصراعات التي قامت عليها البشريّة من قديم الأزل، ولن تنتهيَ إلّا بزوالهم وقيام الساعة، وإن كانت تتفاوت قوّتها حسب منطلقاتها، فتأتي الأديان والمعتقدات والمذاهب لتسعِّرَ نارها، وتُظهر أسوأ ما في البشر من شرٍّ دفين، لا يلبث أن يظهرَ إن أفسحنا له الطريق. والأمر سيّان مع العنصريّات الأخرى المبنيّة على العرق واللون والفكر والثقافة، والتي صالت وجالت وشاركت الأديان في هذا الصراع الوجوديّ، وتفوّقت عليه في وقتٍ من الأوقات؛ كما حدث للهنود الحمر حين اجتثَّهم الغزاةُ الأوروبيّون، وسلبوا أراضيهم التي باتت تُعرف بأمريكا، وكذلك في تعاملهم مع الزنوج، وما حدث مع موجة الاستعمار العالميّ، وما تبعها من مذابحَ وإفناءٍ للشعوب المستعمَرة، كما حدث في الجزائر. والشاهد هنا، أنّ فكرة هذا العمل لم تُبنَ على هذه الصراعات القاتلة، رغم وقوفها عليها، وإنّما استخدمَتْها كمدخلٍ للحديث الأوسع والأشمل المتعلِّق بفكرة الانضواء تحت الجماعة، بغضّ النظر أكانت جماعةً دينيّةً أو عرقيّةً أو ثقافيّةً أو حتّى وطنيّة. فالمؤلِّف استطاع بمهارةٍ كبيرة مناقشة هذه الفكرة الفلسفيّة، وحاول الابتعاد عن التخندق في صراعات العقائد، عندما صوّرَ بصدقٍ صراعًا كبيرًا آخر يعيشه أصحابُ المذهب الواحد، أدّى إلى تشتُّتهم وضياعهم، من خلال هذا الطفل الذي عاش كلَّ هذه الصراعات المختلفة، وكان انتماؤه إلى أسرته وقبيلته ومذهبه سببَ شقائه، وأدّى إلى النتيجة النهائيّة التي وصل إليها، عندما اختار السجن هربًا من هذا الانتماء القاتل الذي قضى عليه. هذه الفكرة الفلسفيّة التي بُنيَ عليها العمل في عمقه المثري، كانت واضحةً جليّةً، واستُخدمت بعض السيميائيّات الذكيّة لإظهارها، كتغييب الأسماء في كامل العمل؛ فلا مدينةَ تُعرف، ولا شخصَ يُسمّى، وإنّما جمعَ بين كلّ هذه الأشياء بعضُ صفاتِها التي تشير إليها، واستُخدمت لتسميتها والتعريف بها. فتلك هضبةٌ جنوبيّة، وهذا رئيس، وذاك ابن الرئيس، وهذا حفيد، وذاك والد، وابن وابنة، وعمّة، وصاحب، وسجين، وغفير... وهو ما يشير إلى أنّ هذا التغييب لم يأتِ عرَضًا وإنّما كان متعمَّدًا ومقصودًا بذاته. وهنا نسأل، لِمَ غيَّبَ المكرمي أسماء الشخوص والأماكن بالمطلق، واكتفى بذكر بعضِ ما يميِّزُهم عن غيرهم، واتّصالهم بالراوي أو الراوية، متجاهلًا الحميميّة القرائيّة التي تُشعل جذوتَها مثلُ هذه الأسماء؟ لا سيّما أنّ بعض الروائيّين الكبار ذهبوا باتّجاه ذكر الأسماء الثلاثيّة للشخصيّات، لزيادة التصاق القارئ بأبطال العمل. أرى أنَّ هذا الإقصاء للأسماء التي تعَدُّ ركنًا مهمًّا من أركان التلقّي الجيّد للسرديّة، لم يكن هروبًا من المساءلة القانونية أو تحييدًا للجماعة، وإنّما كان بهدف إظهار العمق الحقيقيّ للعمل، وبيان أنّ إشكاليّةَ الصراع المذهبيّ ليست هدفًا، وإنّما هي منطلقٌ لمناقشة الأزمة الحقيقيّة التي تعيشها البشريّة على مرّ العصور، وهي ليست أزمةَ فكرٍ وثقافةٍ وأيديولوجيّة - رغم وجودها وتصنيف الناس تبعًا لها - وإنّما أزمتنا الحقيقيّة تكمن في الاجتماع والتخندق خلف هذه الفلسفات أو المعتقدات، وتناحرنا في ما بيننا بسببها، وهو ما جعلها تمتدّ ولا تنتهي، رغم نهاية أصحابها وروّادها الأوائل، إذ استُخدمت كوسيلةِ فرزٍ سهلة، تُجنبّنا الجهد الذي سنحتاجه لو أنّنا اعتمدنا على أنفسنا في معرفة الآخرين، واتّخاذ قرار الابتعاد عنهم أو الاقتراب منهم. بالضبط كما ظهر في سياسة التمييز والإقصاء التي انتهجها ابن الرئيس في هذا العمل السرديّ، وشتّت بسببها أصحاب المذهب نفسه، معتمدًا منهج الأتباع والموالين والعصاة، منشئًا بذلك جماعتَيْن يُرضي من خلالهما مرضه النفسيّ. تكرّر ذلك مع الجيل التالي الذي اقترف الخطأ نفسه، رغم الويلات التي ذاقها أهل الهضبة الجنوبيّة ودفعتهم للوقوف في وجه الرئيس، وعَزْل ابنه، واستعادة حقوقهم المسلوبة. كلُّ ذلك تمّ نسيانه، وعادوا من جديد للاجتماع حول الفكرة الأساسيّة التي أظهرت لنا هذا العمل، وتمحورت حول الانضواء تحت لواء الجماعة، مهما كانت مصائبها، وتغييب العقل بالمطلق في هذا القرار الوجداني، رغم الضرر الكبير الذي سنجنيه من ذلك؛ فالجماعة ستظلّ حاضرة وحاضنة لنا، ومؤطِّرة لكلّ سلوكيّاتنا، مهما غاب الشخوص، وستتجذّر أكثر وتتكرّر مع غيرهم، طالما كان هذا خيارنا. لذلك، لا فائدة تُذكر من التحدُّث عن أشخاصٍ بعينهم، بينما ينبغي الوقوف على الأفعال التي لا تزال تتكرّر مع توالي الأقوام؛ وهو ما غيَّبَ الأسماء بالمطلق. ولو كنت مكانَ المؤلِّف لغيّبْتُ حتّى المعتقد، فالقضيّة أعمق من ذلك بكثير. ولعلّ المؤلف لم يكتفِ بالسيمائيّات التي أوردها في سياق سرده الجميل، ووجد نفسه مضطرًّا، استجابةً للفكرة الكبيرة التي يؤمن بها ويريد لهذا العمل الإبداعيّ إيصالها، إلى التصريح بفلسفته، عندما أوشك على إنهاء الصراع في قوله: «ومع مرور الوقت اتّضح أنّ الناس ليسوا إلّا حطبًا لقضيّةٍ خاسرة، وأنّ الأمر لا علاقة له بدين الله، فالأمر لا يعدو كونه فرصةً لتطويع الناس باسم الدين أمام رغبات الحاقدين والمتعصّبين.» (ص 158) وكذلك في العبارة الجزْلة التي وردت على لسان الفتاة بعد أن كبرت ونضجت وتزوّجت من ابن الرئيس، في قولها: «أنظر لوجه هذا الزوج الضالّ وأتساءل عن كيفيّة استخدام الدين من أجل تنفيذ مطامع شخصيّة». (ص 175) وكلّ ذلك يشير بوضوح إلى أنّ فلسفةَ الاجتماع والتفرُّق هي عَصَبُ هذه الحكاية، وهي الفكرةُ التي راقت لي كثيرًا وتماهيت معها، ووجدت أنّها تستحقّ الوقوف عندها والتحدّث عنها، خاصّةً أنّ القرآن الذي يُعَدّ الدستور الإلهي الذي لا يعتريه الباطل مطلقًا، كرّس هذا الأمر، ونهانا عن التشرذم، ببيانه أنّنا سنأتي يومَ القيامة فرادى، ولن تنفعنا جماعتُنا وأشياعُنا، قال تعالى: ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) (الأنعام: 94) وقوله تعالى في بيان التفاضل في ما بيننا، وأن لا علاقة له بانتماءاتنا، وإنّما بصلاحنا وقربنا من الله، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات: 13). وكلّ تلك المعاني القرآنيّة العظيمة تشير بوضوح إلى أنّنا سنحاسَب عن أنفسنا، وأنّ الجماعة، وإن كانت أداةً نستخدمها لإعمار الحياة، وتقينا شرور الأعداء، وينبغي الاهتمام بها، إلّا أنّها لا تخلو من اشتراطاتٍ أساسيّة تجعلنا حاضرين ومحاسَبين كأفراد، رغم اجتماعنا وتعاضدنا. فلا قيمة للاجتماع إن غيَّبَ عقولَنا وفكرنا بالمطلق، وقادَنا كالنعاج نحو حتفنا، وهو ما يحدث، للأسف، في أغلب هذه الاجتماعات، واستدعى اعتذار المؤلِّف إلى أبنئه. إنّ ذلك ليُظهر بجلاء القضيّة المحوريّة التي يريد النصّ السرديّ مناقشتها، وكيف أنّها أبعد ما يكون عن الانتصار لطائفة معينة، والانتقاص من طائفة أخرى كما توهمنا بدايةُ السرد، عندما أجاد الراوي في وصف التنمُّر، والعداوة التي مورست ضدّ طفل ٍصغير؛ وهو ما يحدث، للأسف، من الطرفَيْن. وإن كان المؤلِّف لم يمهل القارئ طويلًا لعداء النصّ والانتصار لمذهبه ومحاكمته أخلاقيًّا، إذ سرعان ما عاد لبيان خللٍ آخر في طائفته نفسها التي تجلد الراوي (الفتى) المتكلِّم، وتأذّى منه طفلٌ لم يبلغ الحلم بعد. وأظهر أنّ الظلم الذي تعرّض له طفلٌ مثله من بني جلدته، كان أشدَّ وقعًا وأبعد أثرًا؛ وهو ما قاد النصَّ إلى عتبة النهاية، كونه أبلغ في تأثيره وديمومته، بعد أن أتاه الظلم من الأقرباء الذين اختار الاجتماع معهم وعدم الفرقة والبعد عنهم، حتّى يتقوّى ويشْدُدْ بهم أَزْرِه، فكانوا أشدَّ إيلامًا عندما تسبّبوا في وفاة جدّه، وبدا أنّهم السبب الحقيقيّ في كلّ بلوةٍ ومصيبةٍ عاشها، حتّى أُودع السجن وهو لم يتجاوز السادسةَ عشرةَ من عمره. وخذلوه عندما أُجبر والده على العودة إليهم صاغرًا، معترفًا بذنبه، طلبًا لنصرتهم وإسهامهم في إخراج ابنه من محنته، فلم يقبلوا توبته، ولم يقفوا معه، وقرّروا تصنيفه مرّةً أخرى، واعتبروه منافقًا، وأظنّهم أسّسوا جماعةً جديدةً تحمل هذه الصفة... وذلك يصبّ في اتّجاهٍ واحد، وهو أنّ الخللَ إنسانيٌّ، أظهره غيابُ العدل والإحسان وشيوع الظلم والقهر، ولا علاقة له بالدين أو بالمعتقدات أو النَّحَل. كلّ ذلك يقودنا إلى ذروة الصراع الذى أرادته السرديّة، وهي تحضّنا على التفرُّد، وتخبرنا بصدقٍ قاتل، أنّ أكثر ما يُهلكنا اتّباعُنا لسياسة القطيع في توحُّدنا، وغياب ذواتنا بالمطلق. نفعل ذلك رغم جهلنا بأُطُر هذا الاجتماع، والأسس التي ينهض عليها. وعندما يكون هذا فعلنا، فإنّنا لا نستطع الاحتفاظ بقيمتنا الحقيقيّة، ويكون خيارنا الساذج أنّ «الموت مع الجماعة» رحمة.

مشاركة :