وقفات تأملية مع رواية «الاستدارة الأخيرة» للكاتب الكويتي أحمد الزمام - حامد أحمد الشريف

  • 9/6/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بطبعي لا أميل للروايات والنصوص الأدبية السطحية التي لا تعتمد على أفكار عميقة أو «تيمة» معينة تجمع شتات العمل الأدبي، وتجعلني أستحضر الكاتب كقيمة فكرية وفلسفية أثناء القراءة، وهذه - أي الأفكار والفلسفات- قد تكون متناثرةً في النص، ونقبل بها على هذا النحو ونتغاضى- على مضض- عن غيابها المحوري، فالأفكار الأساسية يصعب تحميلها بهذا الهم، وهو ما درجت عليه كثير من الروايات العالمية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حقيقة أنَّ نجاح الكاتب في الانطلاق من أفكار رئيسة بهذه المواصفات؛ يعد إبداعًا وتوفيقًا يُسهِّل عليه إتمامَ العمل ومنحَـه الصفةَ الإبداعية، ولدينا أيضًا شواهدُ كثيرةٌ من الإبداع الروائي العالمي، نحا هذا المنحى كرواية «المسخ» لـ «فرانس كافكا» و»شيفرة دافنتشي» لـ «دان براون»، وعلى المستوى العربي، نراه في «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، واللص والكلاب لـ «نجيب محفوظ»، وغيرها كثير من الأعمال الإبداعية العالمية. ذلك بالطبع ما وقَفْتُ عليه من اللحظة الأولى التي أمسكت فيها برواية «الاستدارة الأخيرة» للكاتب الكويتي المبدع، أحمد الزمام التي تقع في 424 صفحة من القطع المتوسط، عندما وجدتُـه ينطلق من فكرةٍ خلَّاقةٍ؛ تعتمد على جنس الإنسان وجندريته، والصراع الكبير المحتدم بين الجنسيين لفرض أجندتهما، وسعي كل واحد منهما لتهميش الآخر والقضاء عليه، وعدم اعترافهما بالفطرة السوية التي خُلقا عليها، بمقتضياتها التي تسندُ لكل منهما مهامَّ وواجبات وحقوقًا محددة، لا ينبغي تخطيها، فتصور لنا السردية عالـمًـا افتراضيًا تخيليًا أصبح أنثويًا وليس ذكوريًا، وتخلق صراعًا دراميًا كبيرًا تحت هذه المظلة، وهو التصور المبنى على أرقام متداولة تخشى من ازدياد أعداد الإناث مستقبلًا، مقارنة بعدد الذكور، وتأثير هذا البعد الديموغرافي على الحياة الاجتماعية للبشرية، ما دفع كاتبَنا المبدع لاستلال هذا البعد الواقعي؛ ومزجه بالخيال والانطلاق بنا في رحلة ماتعة، لتصور هذا العالم الجديد، الخاضع كليَّةً لهيمنة الإناث من خلال المملكة النسائية؛ التي بات فيها الرجل كمًّا مُهملاً يزدريه الجميع، وتطبق عليه الأنظمة الظالمة التي كانت تطبق على النساء وقت أن كان العالمُ ذكوريًا، بل وصل الأمر لمحاولة اجتثاثهم كلية، والإبقاء على عدد قليل جدًا يُستخدمون للتكاثر والإنجاب فقط، بالضبط كما يحدث في تدجين الحيوانات المستأنسة. هذه الفكرةُ الخلاقةُ منحت العملَ قيمةً كبيرةً؛ خاصةً مع وجود راوٍ متكلمٍ ذكر، يعايش كل هذه الانتكاسة للفطرة الإنسانية، ويعاني الأمرَّينِ من اضطهاد الأنثى له، من خلال زوجة أبيه ومعلمته، وهو ما ينسحب بالتأكيد على كل الرجال بعد أن أصبحت العصمة بأيديهن، وأصبح القرار لهن، والجميل أنه أطلق السرد من انفراجة بسيطة في هذه العتمة التي أصبح العالم الافتراضي يعيشها، مستغلًا تنويرًا معينًا يسبق عادة التغيير الجذري ويهز أركان الواقع من جذوره، ليأخذنا برفقة هذا الشاب المشغول بالتاريخ وقد بات يتململ من الظلم الواقع على الرجال ما جعل غاية أمنياتهم أن يكونوا إناثًا. هذه الرحلة الشيقة التي أجاد الراوي المتكلم في وصفها، متنقلًا بين الحِقب العمرية التي عاشها كطفلٍ وشابٍ؛ أظهرت لنا البعد الفلسفي الجميل، الذي تريد السرديةُ مناقشتَهُ بشكل إبداعي، تغيب عنه المباشرةُ والتقريرية، رغم اعتمادها على أفكار فرعية مهمة، تُصور - على سبيل المثال - العاطفة الأنثوية، وقدرتها على التحكم في قراراتهن، وكذلك الحدية المرضية التي عادة ما تتصف بها أغلب الإناث فسيولوجيًا؛ ويقلل من تأثيرها علمها وثقافتها وتحضرها، وكذلك وجود الرجل العاقل الذي يهذب كثيرًا من جنونها السلوكي وشطحاتها؛ إن كان زمام الأمر بيده؛ وكان بالمواصفات المثالية، ولم يكن الوجهَ الآخرَ لنفس العملة. هذا الأثر السلوكي عادة لا يظهر مع استمرارية دورة الحياة الاجتماعية، التي تخفي كثيرًا من عيوبها، رغم التجاذبات والإشكاليات الداخلية، فكان الحل في مناقشة هذه الفكرة الجنونية سرديًا، من خلال البعد التخييلي، وخلق واقع افتراضي يحمل كل هذه المكونات ويفاقم من ظهورها وشيوعها، وبالتالي قلب الصورة، ووضع الأمر كله في أيدي النساء، ليظهر ما خفي من سلوكيات الأنثى المهيمنة، وترك هذه الحقيقة تتشكل تدريجيًا من خلال السياق الدرامي المتنامي، ودون أي تدخلٍ مباشرٍ من الكاتب، وقد اختار منح المشاهد - بمكوناتها المادية وغير المادية - القدرة على التعبير، وإيصال المفاهيم المستهدفة موضع النزاع، وتشكل رأي القارئ بطريقة غاية في الروعة، اعتمادًا على الصراع الدرامي الواقعي المحتدم في النص. هذه الفكرة الإبداعية ستصل للمتلقي متى ما استطاع تجاوز البداية التي شابها شيء من صعوبة الفهم والاندماج معها، مما قد يصرف القارئَ العجولَ أو غيرَ الواثق بالكاتب والكتاب؛ لافتقارها إلى حد ما للاستحواذ الإبداعي، الذي يعد ركيزة أساسية في صياغة بداية الأعمال الكتابية الإبداعية، وكان حريًا بالكاتب الاهتمام به في المعالجة النهائية، طالما كان بصدد تدوين عمل كبير يشعر بقيمته، فالغموض والاستفهامات المحفزة للقارئ، والتشويق والإثارة وكل ما يتعلق بتجويد البداية المستحوذة؛ يعد سلاحًا ذو حدين، واللعب به قد يجرح النص أو يقتله، لذلك ينبغي توخي الحذر الشديد عند استخدامه خشية صرف القارئ عن المتابعة في حال لم يقنن هذا الاستخدام، كما ينبغي تأجيل إظهار قوة النص وقيمته في البعد الفكري والفلسفي، إلى ما بعد بناء علاقة جيدة بالقارئ ودفعه لمحبة العمل، وفي كل الأحوال لن نأتي بجديد إذا قلنا: إنَّ البدايات هي وقودُ النهايات، ولا يمكن لأي عمل إبداعي إهمال أي منها. = وإذا ما تجاوزنا هذه البداية المجهدة، سيفصح العمل عن قيمته الحقيقية وسيأخذنا معه في رحلة محفوفة بالجمال والإبداع، مُظهرًا لنا قدرة النص العجيبة والفائقة على التنقل بين المشاهد، من دون أي محددات شكلية، فالمشاهد متصلة في تدوينها - رغم انفصالها وابتعادها الزماني والمكاني وتعدد شخوصها وأصواتها - بطريقة غاية في الصعوبة، تجعلك تشعر وكأنك في دوامة لا تستطيع الخروجَ منها، مما يتطلب تركيزًا كبيرًا من القارئ، حتى لا يفلتَ أحدُ خيوطَ الحكاية من بين يديه، فالسارد أجاد التنقل برشاقة كبيرة بين عدة مشاهد تختلف أمكنتها وأزمنتها، وحتى شخوصها، والعودة في كل مرة للمشاهد الابتدائية بطريقة غاية في الروعة، وكانت تحمل شيئًا من التشويق، وذكاء النص وإن كانت تخلق مكابدة في الفهم والتتبع، قد لا يقوى عليها القارئ العادي إن لم تستهوِه الحكاية وتدفعه لتتبع أحداثها وتوقع نهاياتها، وفي كل الأحوال يمكننا القول: إنَّ السرد نجح في ضبط هذا التلقي بدرجة كبيرة للقارئ النخبوي، رغم إنَّ الخيوط كادت تفلت من بين يديه في بعض المواضع، فالمنهجية الكتابية التي اتبعت هنا مرهقة جدًا في الكتابة والتلقي على حد سواء، ما يجعلني أكاد أجزم أنها أرهقت الكاتب كثيرًا، ودفعته لإعادة حياكتها على هذا النحو الإبداعي المتحدي للقارئ، ولم تكتب هكذا من بدايتها، ولا أظنه إلا قد عانى الأمرين في ربطها بهذا الإحكام، والعودة لجزئياتها في كل مرة، والاستمرار في تسلسلها من دون انقطاع، لكنه في ما يبدو هاجس الإبداع، الذي استحوذ على الكاتب ودفعه لتعمد خلق صعوباتٍ معينةٍ والتلذذ بتجاوزها، وأظنه نجح كثيرًا في ذلك، وأصبحت سمة فريدة تميز هذا العمل، وتخلق قيمته الحقيقة على الجانب البنائي والأسلوبي بعيدًا عن الفكرة الأساس التي يناقشها. = غياب المحددات الذي اتسم به العمل شمل أيضًا أساليب السرد المختلفة وتقنياته بذات السلاسة، فلا تكاد تشعر بالتنقل بين الوصف الصريح، والتلغيز المبهم، وتعرية الوقائع وفلسفتها، والمونولوج الداخلي، والحوار، والتقديم والتأخير للنهايات والبدايات، وتعدد الرواة؛ وتنقلهم بين ضمير المتكلم بشقيه الأنثوي والذكري، والراوي العليم الذي بقي حاضرًا معهما حتى آخر قطرة من السردية، وكل ذلك يدفعنا للانبهار بقدرة الكاتب على خلق هذا المزيج الإبداعي التعددي، من دون ضياع النص من بين يديه، تاركًا لنا أنموذجًا فريدًا وأصيلًا للكتابة الإبداعية المتطورة جدًا. = الوقوف عند التفاصيل الصغيرة كمنهجية إبداعية؛ نالت حقها أيضًا من الاهتمام في مجمل العمل، ويمكن رؤية ذلك في تنامي المشاعر بين السارد الأساس، وحبيبته «لورا» على سبيل المثال، وهو البعد الرومانسي الجميل الذي لم يُهمل رغم ثانويته وهامشيته، ووجدنا الكاتب يبدع في عرضه وتناميه واستيلاده من العدم بطريقة رائعة وجميلة وواقعية، تاركًا له المساحة السردية التي تتناسب مع حجمه واتصاله بالفكرة الأساس، لنشاهد على مكث ولادته الطبيعية ونموه ونضجه على نار هادئة، وهي الصورة المثالية للعلاقة العاطفية التي غالبًا ما تمر بفترة مخاض صعبة سواء أكانت ظاهرة موصوفة أم مضمرة تظهرها الأنساق المختلفة للعلاقة، ولقد نجح الكاتب بامتياز في رسم هذه العلاقة بالدقة المطلوبة، إذ إننا وصلنا إلى الصفحة الثمانين دون أن يظهر بشكل واضح نوع العلاقة التي تربط لورا بالبطل، بل إنَّ المصارحة الحقيقية بالمشاعر لم تظهر إلا في الصفحات الخمسين الأخيرة، وكانت إشارة خفيفة لا تتعدى المفردة أو المفردتين إذ إنَّ أغلب شواهد هذه العلاقة، بقيت مضمرة تتشكل داخل ذهن القارئ، وتنساق خلفها مشاعره، وتظهرها ابتساماته المتعددة، أثناء القراءة، والجميل أنَّ تلك اللحظات المسروقة من سياق الفكرة الأساس، لا تبتعد عنها بالمطلق إذ إنها جسدت اهتمامات مشتركة حول القلعة وما يحيط بها من غموض، وتعمد الكاتب توظيفها كمتضادات ترسم لنا الصورة الإنسانية المثالية التي لا يمكن استبصارها ووصول مغازيها العميقة بدونها، فانتك اس الفطرة السوية يحتاج إلى شاهد يظهره؛ تمثل في لورا والسارد المتكلم الأساس، فكلاهما حمل مشاعر معتدلة ومنصفة للجنسين تبتعد كلية عن الحدية التي غرق فيها الجميع تقريبًا، إذا ما استثنينا الشيخ الحكاء الذي مثل ضلعهم الثالث، واستلم زمام السرد معهما وأوكل إليه فك تشابك الحكاية وتمهيد الطريق نحو النهاية.

مشاركة :