مهمة المثقف أن يجاهد لتحطيم الصور النمطية والتقسيمات الاختزالية التي تقيّد وتحد من حرية الفكر، ومن مهام المثقف الصعبة أن يحافظ على استقلاله من الضغوط السياسية والاجتماعية، هكذا يرى إدوارد سعيد في كتابه «تمثيل المثقف» (بالإنكليزية) صورة المثقف الملتزم أو المثقف العضوي المهموم بقضايا وطنه والإنسانية والحريات. هذا المثقف لا يتملق ولا يداهن الفكر السائد في المجتمع وإعلامه المتواطئ، فالمجتمع يحاصر المثقف بالجوائز والإغراءات حتى يسير مع القطيع أحياناً ويجاري السلطة في أحايين أخرى، وإذا لم يفعل فستصيبه اللعنات والملاحقات. جان بول سارتر عند إدوارد سعيد هو مثال لهذا المثقف الملتزم. خارج كتاب إدوارد، قبضت الشرطة الفرنسية على سارتر بتهمة توزيع منشورات ممنوعة لجماعة موالية للحزب الشيوعي بالصين في منتصف القرن العشرين تقريباً، لم يكن سارتر متفقاً مع توجهات تلك الجماعة، لكن حظرها من السلطة أثار قوة الرفض عند هذا الفيلسوف الحر فتحدى قوانين السلطة. ماذا حدث بعدها؟... المسألة التي يثيرها المفكر إدوارد عن نضال المثقف يمكن تقبلها في دول تحترم دساتيرها وحقوق الإنسان بصورة مجملة، لكن هذا المثقف سيكون شهيداً في دول القمع والتخلف. فالجنرال ديغول عندما علم بحبس سارتر أمر فوراً بالإفراج عنه، وقال كلمته المشهورة «لا يحبس فولتير في بلده». ماذا لو كان سارتر عربياً أو مثقفاً في دولة من دول النكد؟... تعرفون بقية الحكاية ولن تحتاجوا غير القليل من الخيال كي تدركوا مصيره الحتمي، هل تذكرون المفكر السوداني محمد محمود طه الذي أعدمه الخليفة المؤمن النميري عام 85 بتهمة الردة وكان هذا من فعل السلطة، ومثله كان سيد قطب، وغيرهما كثيرون تجرعوا العذابات في سجون السلطة من يساريين أو إسلاميين أو ليبراليين، من الناقد لويس عوض الليبرالي اليساري حتى أكبر المفكرين في سجون الدولة المصرية أيام الزعيم الراحل عبدالناصر. إذا لم تكن السلطة هي التي تلاحق المثقف، فهناك قوى انتهازية ورجعية تقوم بهذا الدور الخبيث في المجتمعات المحنطة، سواء كانت تلك الملاحقات بالتشهير أو محاولات القتل، أو قد يتم تحريض السلطة عليه حين تكون الأخيرة مداهنة ومتوسلة بركات تلك الجماعات التي تزودها بشرعية البؤس، إذا لم تتحرك السلطة من تلقاء ذاتها. نذكر أن المرحوم أحمد البغدادي قال رأياً اجتهادياً فتم إلقاؤه بالسجن، كما وُجِّهت تهم باطلة للراحل المفكر خلدون النقيب بعد نشر كتاب المجتمع والدولة، والقائمة طويلة لسجناء الضمير والكلمة. كيف يمكن للمثقفين العضويين أن يحركوا المياه في المستنقعات الراكدة بدولنا ومجتمعاتنا؟ وكيف يمكن لهذا المثقف الملتزم أن يحيا ويجد له وظيفة ومصدر رزق فيها ما لم يغض النظر عن عورات المجتمع والسلطة وقوى الفساد ويساير الركب أو يكتب كلمته بصيغ التمويه والمجاز لعل أحداً ما يدرك معانيها عندما ينبش بطن السطور ويخمن المقصود في أوطان يصيبها الصداع عند الكلام عن الثقافة والفكر؟ لا يمكن الحديث عن المثقف العضوي، دعونا في هذا الوقت نتحدث عن ضرورة السماد العضوي لزراعة الأسمنت في أعلى عمارة وأكبر مول تجاري.
مشاركة :